"لِمْعَلِّمْ" مَلْحَمَةُ وَطَن

 

سلطان بن خميس الخروصي

الوطن هو قبلة الشرفاء والصالحين، فحيثما يممت وجهك شطره تجده باسطا راحتيه ليُعانق روحك الطاهرة بعنان السماء الصافية، الوطن في ردهة الفوضى وتلاطم أمواج اللامركزية تجده هو البوصلة المثلى للتلاحم والوحدة وكرامة الحياة، فحينما يختلف الفرقاء وتتمزق المواقف وتتشظى الآراء يبقى شمعة خالدة تضيء الأفئدة ليكونوا شركاء نحو كلمة سواء، وفي أحيانٍ كثيرةٍ تحوم حول الحمى ظروف قاسية تدفع بكثير من خامات الوطن النادرة للفرار منه ولسان حالهم - مكره أخاك لا بطل - فإما سعيه لرزق أو لطلب علم أو لغاية نبيلةٍ تعود للوطن الحبيب بنفعٍ مهولٍ ذات حين، ومثل هذه النماذج لا ينبغي الإغفال عنها وردمها في مستنقعات النسيان، وهنا يبرز دور الكاتب، والقاص، والروائي، والباحث، والصحفي، والمؤرخ في إبراز الوجه المشرق لمثل هؤلاء العظماء كعربون وفاءٍ لما قدَّموه إنسانيا ووطنيا، وكقيمة ثمينة وثروة حقيقية للجميع.

الروائي العماني "خليل خميس" يطل علينا مرة سابعة من نافذة أخرى تبحث في كنوز هذا الوطن، فيغور في مكنوناته البشرية الثرية، يحاول تسليط الضوء على من ذاع وشاع صيتهم في صنوف العلم والمعرفة ولا يزالون يرخصون حياتهم ورصيد صحتهم لتقديم الخير والعطاء لهذا الوطن المعشوق، يسبر لنا تفاصيل شخصية ثمينة لا تزال تشغل حيزاً قيمياً واجتماعيا وثقافيا كبيرا في الوسط العماني، حملت الرواية السابعة عنوان "لِمْعلم" وهي لفظة عامية يتداولها العمانيون كثيرًا، وقد عرفها الكاتب في مستهل حديثه بأنَّها لفظة عمانية دارجة، ومن معانيها المربي، ومعلم القرآن الكريم، ومعلم اللغة العربية، والمصلح الاجتماعي، وهي لا تختلف عن الكلمة الفصيحة إلا بالألف في كلمة (المعلم) وهو نفسه الذي يدرس ويعلم لكن اللفظة الدارجة كانت أكثر إيضاحاً وتوضيحاً حتى اسم الرواية باللغة الإنجليزية لم يكن"The teacher " وإنما جاء بلفظ "The Tutor " وهي أكثر شمولية عن معنى المعلم.

 

 

يجد القارئ والمتذوق لقلم "خليل خميس" أنه يجمع بين جزالة وجمال الأدب وتسلسل التاريخ والأحداث، فهو يزاوج بين إبداع اللغة وكنوزها الثمينة وبين السيرة وأحداثها المُثيرة المتقلبة، فبين فرحٍ وترحٍ تخلق الأحداث والمواقف، وبين الحزن والسعادة تولد العزيمة، وبين الألم والسكينة يُصنع الرجال، تجد الكاتب حاضرا بين تفاصيل الأحداث عبر اختياراته الرصينة والمباشرة والخفية، فيأخذك للأحداث بحرفية وإتقان بنفس المنهجية السابقة في رواية "لن أحمل البندقية" لشخصية عمانية فذة في التاريخ الوطني.

(لمعلم) تتحدث عن كاريزما نوعية رغم بساطتها وعدم معرفة الناس بها إلا أنها شخصية بقيمة شاهد عيان على الكثير من التقلبات الاجتماعية والسياسية في المنطقة عامة وفي السلطنة خاصة، ينحدر من سلالة ترك أسلافها الكثير من بصماتهم المشرقة في التاريخ العماني القديم والحديث، فالزمن يعود لأربعينيات القرن الماضي، وآلية الحوار بنيت على اتقان قائم بين الدبلوماسية والواقعية وبالذات في الأحداث السياسية الحساسة التي حصلت في عمان ومحيطها، علاوة على بساطة لغة الكاتب كما عهده القارئ في رواياته الست الماضية، فلا تجد التقعر أو التكلف أو الصعوبة في فهم الكلمات والعبارات، ففي إحدى زوايا الرواية يخط قلمه الناضح: " تركني في هذا الفراغ السحيق كهوة بئر يسقط فيها المرء فلا يصل إلى القاع، لقد تركني في دوامة من الرعب، شعرت أن ثمة عيوناً تفتح من تحت الأرض تراقبني، كان كل شيءٍ يتحرك من حولي، كانت الأصوات تنبعث من كل مكان، أصبحت وحيدًا بين تلك الوهاد والحفر المظلمة، لقد تحولت تلك الخفافيش إلى جثثٍ مُعلقة مرعبة، لم يكن أمامي سوى الانطلاق نحو ذلك الضوء الخافت البعيد، لم أشعر بقدمي من شدة الخوف، كنت أعدو عدواً وأسقط عدة مرات لكني أواصل المسير، أتوقف قليلاً لتأمل كل حجر تدمي عليه قدمي، كم عوت الذئاب المُعربدة على ضفة الوادي وأنا أهدهد جمرة الخوف بالآيات القرآنية والدموع، لم أكن أشعر أني أقترب من الضوء لكنني ما زلت أمشي وأمشي"، ناهيك عن السبق الروائي الشعري المضمن في الرواية، ففيها الكثير من المقاطع الشعرية البديعة والتي تذكر لأول مرة، وقد أتى معظمها كتوثيق لمرحلة تاريخية معينة وهي لعمانيين رحلوا وكان لهم باعٌ طويل في الأدب لم يعرف حتى اللحظة.

المتذوق لما خطه مداد "خليل خميس" في رواية "لمعلم" سيشعر بالقيمة الحقيقية في توثيق أحداث الماضي بالمنهجية الروائية وآلية إبراز سيرة الشخصيات العمانية التي كافحت وضربت أروع الأمثلة لتنوير الأجيال الحالية والقادمة في سبيل بذل الغالي والنفيس للوطن، فهي سيرة وطن وشعب عانى في الماضي كثيرًا لأجل الوصول إلى ما نحن عليه تحت ظل القيادة الرشيدة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس – أيده الله- فلابد أن نحافظ على هذه النعم ونأخذ بتلابيب الأسباب للتمسك بأبجديات بقائها.

ختامًا الرواية ستكون متوفرة في معرض الكتاب القادم بمسقط وهي من الحجم المتوسط، وسيكون برفقتها أخواتها الروايات السابقة الإصدار وهي: (بيعة الروح، وثلاثية الصمت، والفلامنجو يهاجر من تلمسان، وانتظار، ولن أحمل البندقية، وعاشق القمر)، فأنصح المتذوقين للقلم العماني باقتنائها، وأتمنى لكم قراءة ممتعة.

sultankamis@gmail.com