التوظيف الإلكتروني وصناعة القلق

د. عبدالله باحجاج

هل نعلم البُعد السيكيولوجي الناجم عن استخدام منصات التوظيف الإلكترونية؟ وهل لدينا رؤية استشرافية لتداعيات هذا البعد؟ لابد أن نفتح ملف توفير 25 ألف فرصة عمل أتيحت للباحثين عن عمل من فئة الشباب، بتوجيهات سامية من لدن عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- من منظور تأثير استخدام الفضاء الإلكتروني، كآلية وحيدة لاستحقاق تلك الفرص الوظيفية، لأول مرة في البلاد، رغم أهميتها، ومن منظور الإشكاليات التي أفرزتها هذه العملية حتى الآن، وتداعياتها المقبلة.

وسنتناول هذا المنظور من الواقع نفسه، بعد أن قابلنا مجموعة من الباحثين عن عمل -بناءً على طلبهم- ووقفنا عن قرب على منظومتهم النفسية، واستشرفنا آفاقها المقبلة وفق السيناريوهات المختلفة، وبُعيد لقائنا معهم، غرَّدنا في مواقع تواصلنا الاجتماعي، بأن هذه المنصات الإلكترونية فوق الواقع الاجتماعي -بنية وثقافة- وهنا ينبغي توضيح هذه المسألة، فهناك الكثير من المناطق لا تتوافر فيها خدمة شبكة الإنترنت، كأجزاء من مدينة صحلنوت، كما أن سعر الخدمة ليس في متناول كل المستويات الاجتماعية وفئاتها السنية، وقد أصبحت ثقلا صغيرا أضيف إلى فوق مجموعة أثقال كبيرة تعاني منها الأسر، وتنعكس سلبا على سيكيولوجية الباحثين عن عمل، فقد قال لنا بعضهم إنهم لم يتركوا فردا من أسرهم -ذكرا أو أنثى- ولم يطلبوا منهم (يسمونها شحاتة) ريالات، من أجل التسجيل والتحديث والتثبت عبر النت، كما أزَّمت تعقيدات التسجيل في هذه المنصات، من حيث البطء وطول الإجراءات، وحالات الرفض (قبل حلها) نفسيات الباحثين عن عمل، وصعدت فيهم حالة القلق، وهذه الحالة هى الآن متراكمة ومتغلغة في نفسياتهم، لن يمحوها إلا الحصول على الوظيفة، وكلما طالت حالة انتظارهم لها، يتحول القلق إلى يأس.

ولن نبالغ إذا ما قلنا إن 25 ألف باحث، أو غالبيتهم، قد أوقعتهم منصات التوظيف الإلكتروني في دوائر القلق والاستياء، باستثناء من توظف منهم حتى الآن، وحتى لو افترضنا سلاسة ومرونة العمل الإلكتروني في الإجراءات الأولية، فإن الآلية نفسها، تثير فيهم القلق؛ لأنها ثقافة جديدة عليهم؛ فهم نتاج بنيتهم الاجتماعية، وتأطيرات مؤسساتهم التربوية. ومن هنا، ينبغي أن نتفهم حالتي القلق والاستياء عند الباحثين عن عمل؛ لأنها موضوعية، وهى تكمن في ثلاثة مسائل جوهرية:

- الأولى: أنه ورغم إقرار إستراتيجية مجتمع عُمان الرقمي في مايو 2003، إلا أن تحقيق التحول الإلكتروني لضمان مجتمع معرفي مُستدام، لم يتحقق بحيث يمكننا اعتماد المنصات الإلكترونية بصورة آمنة، ودون إشكاليات، وتداعيات.

- الثاني: وهو يتعلق وجوبا بالأول؛ فالتواصل بين الباحثين عن عمل يكون وهميًّا، أي خارج دوائر الحواس، وإنما عن طريق الافتراض، بأن أشخاص يتلقون التواصل الإلكتروني عبر هذا الفضاء، ويقومون بتحديد مصير مستقبلهم، أو أن هذا التحديد، تتم عن طريق وسيلة إلكترونية، فيها نسب الأخطاء مرتفعة.

- الثالثة: ثقافة الواسطة والمحسوبية المتغلغلة في البنية المجتمعية؛ إذن، فكيف بالشباب في ظل المسالة الثالثة أن يسلموا بكل ما يرد عليهم أو يقال عبر الوسائل الإلكترونية؟

ومن هذه الاعتبارات، نرى أن المنصات الإلكترونية فوق واقعنا الاجتماعي، وستسبب إشكاليات مقبلة، وهذه النتيجة الأخيرة، نلمس مؤشراتها من حالات التجاذب، وعدم المصداقية في النتائج التي تعلن عنها الجهات الحكومية المختصة بهذا الملف، ونحن لا نقول هنا عدم الصدقية، وإنما المصداقية، وهذا حكم نستدل عليه من خلال متابعتنا لموقع "معا نعمل"؛ فرغم حرص ومتابعة القائمين عليه في الرد، ومحاولات إقناع الباحثين، إلا أن درجة الإقناع تكاد تكون معدومة، وفق النماذج التي اطلعنا عليها؛ فمثلا: جدلية العدد الذين تم توظيفهم حتى الآن عن طريق المنصات الإلكترونية، فقد وجدنا هناك تشكيكا فيه، ولم يتم إقناعهم بذلك، وهذه الإشكالية ترفع من مستوى الاحتقان، وهى التي تقف وراء حملة "ارحل" التي أُطلقت، مؤخرا، ضد معالي وزير القوى العاملة، وهذا أيضا ينبغي أن يكون مقدَّرا قياسا بما ذكرناه سابقا، وربما علينا هنا أن نضع القارئ في قلب هذه الإشكالية، حتى يُدرك الأبعاد والخلفيات، ومن ثم ستتضح له نتائجها أو تداعياتها؛ فبخصوص مطلب معرفة عدد الباحثين الذين تم توظيفهم عبر هذه المنصات، أجاب موقع "معا نعمل" أنه يبلغ حتى الثاني من يناير الحالي 4126؛ أي تم تحقيق 16% من منحة الـ25 الف فرصة عمل؛ منهم: 67% ذكورا و33% من الإناث، وقد قوبلت إجابة الموقع بالتشكيك من قبل المتفاعلين، مؤكدين على التدليل بصدقية الرقم، مقترحين من أجل ذلك ذكر أسماء الشركات والباحثين، وجاء الرد من الموقع حرفيا "حسن الظن صفة جميلة، فلا نعتقد أن من الإيجابية التشكيك بجدية مؤسسات الدولة في توفير فرص عمل للمواطنين".

ماهية هذا النقاش وجدليته، ناتجة عن طبيعة العلاقة التي بنيت عبر المنصات الإلكترونية؛ فمن خلال هاتف محمول أو جهاز صغير، يخاطب الباحث الفضاء الإلكتروني، ويتلقى نتائجه الإيجابية والسلبية، عبر هذه الوسيلة نفسها، لا يعرف مع من يخاطب أو يتفاعل، وفق ثقافة مجتمعية مترسخة، قائمة على مبدأ الواسطة والمحسوبية، يحاول الباحث هنا إسقاطها على التوجهات الجديدة، دون علم أو خلفية معرفية بالأشخاص التي تقف الآن وراء تجسيد حق العمل، من منظور الحق، وتحدياته السياسية.

هل ينبغي أن تستمر هذه العلاقة بين الطرفين؟ إذا أخضعنا قضية الباحثين عن عمل للباعث السياسي الذي أنتج 25 ألف فرصة عمل، فإن الإسراع في حل مثل هذه الإشكاليات، قد أصبح حتميا؛ لأن القلق بدأ يتحول إلى استياء عند البعض؛ فلابد من إعادة التعبئة -لا التخدير- وإرجاع النفسيات إلى المربع الأول الذي رفع النفسيات إلى عنان السماء؛ فمسألة التوظيف لابد أن تكون أكثر براجماتية، وبشراكة مجتمعية مفتوحة، كإشراك من يمثل الباحثين في كل محافظة ذات ثقة عالية في المنصات الإلكترونية، وكذلك ممثلي الشورى والبلدي، ومن الفاعلين والمترفعين عن الذات، لابد أن تكون هناك شفافية مفتوحة على مصاريعها، تكسر حالات الغموض، وتلغي المسافات الوهمية بين المنصات والباحثين، كما أنه آن الأوان أن تتم عملية تقويم/تقييم مسارات التوظيف الراهنة، واقتراح إنشاء جهاز تمثيلي من القطاعات الثلاثة: الحكومية والخاصة والمدنية، تكون له سلطة القرار لمتابعة عمليات التوظيف في الشركات؛ فهناك أحاديث كثيرة، تسهم بدورها في مستويات القلق، ولا يُفترض أن تكون صحيحة، لكن انتشارها، محل الخطر، كما أن فترة الـ6 أشهر طويلة، وقد فسرت عند الباحثين بأنها تمطيط، وليس بالضرورة أن تكون صحيحة، لكن سيادتها في ذهنية الباحثين "محل خطر". ونرى من جهتنا، أن هذه المدة الزمنية الطويلة، لن تسهم في الإدارة السياسية لقضية الباحثين عن عمل...إلخ، كما برزت قضية الحصة المناطقية للوظائف -سنتناولها في مقال مستقل- وهى مرشحة لأن تقود حالة القلق.. عموما، هناك الكثير من القضايا تعزز حالة القلق عند من التقينا بهم، ولابد من الانفتاح عليها، وسريعا، وقد نقلناها عبر هذه النافذة، من منظور دورنا الصحفي الذي في أجزاء كبيرة منه يعد حلقة وصل بين المواطن والمسؤول، وكلنا أمل في الانفتاح عليها لحتمياتها التي لا تؤجَّل.

كلنا أمل كذلك في أن تتم عملية المقارنة بين منصات التوظيف الإلكتروني وبين إقامة مراكز خاصة للتوظيف، يلتقي فيها جميع أصحاب العلاقة من شركات خاصة وحكومية مع الباحثين المقترحين تحت إشراف سلطة تمثيلية، ويتم فيها اتخاذ قرارات التوظيفات من عدمها. وتتوافر لدينا تجربة في هذا المجال يُمكن البناء عليها، وقد شهدنا من خلالها عمليات توظيف فورية؛ مثل: معرض التوظيف الذي أقيم في صحار عام 2016، وتم من خلاله تعيين 371 باحثا فورا في منشآت القطاع الخاص. الأهم هنا، أن المرحلة تتطلب التبسيط في الإجراءات، والشفافية المباشرة، ووضع الباحثين في قلب أحداث التوظيف، والمرحلة المقبلة تحتم ذلك.