عيسى الرواحي
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "ولَفضلُ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارا ولا درهما، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وورد في جامع ابن جعفر الأزكوي -رحمه الله: "والعلماء ورثة الأنبياء، وملح الأرض، ومصابيح الدنيا، وهم الأدلة عند العمى، والمشهورون في الأرض والسما، وربانيو الأمة، والعلماء بالله والسنَّة، وقواد الناس إلى الأرض".
فهنيًا لعلماء الأمة الذين يرشدونها إلى درب الهداية والرشاد، وهنيئا لهم هذه المكانة العليَّة، وهنيئا لكل بلد احتضانها ورثة الأنبياء علماء الدين لا علماء السوء، وبلدنا العزيز عُمان أبرز الأقطار التي شرَّفها الله تعالى بكثرة العلماء على مر العصور وإلى يومنا هذا، ليسوا كثرةً في عددهم فحسب، بل كثرة -والحمد لله- في علمهم وفضلهم وتقاهم وإخلاصهم وتفانيهم في خدمة الأمة والدعوة إلى الله تعالى، وهم أهلُ ثباتٍ وحِكمة حتى في زمن الفتن والشدائد والمحن، لم تفتنهم زهرة الحياة الدنيا، ولم تُزعزعهم المكائد والأهواء.
وفضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي النزوي واحد من أبرز علماء عمان والأمة في وقتنا هذا، الذي سخَّر حياته كلها للدعوة إلى الله تعالى، ونشر العلم والمعرفة بشتى الوسائل والطرق من برامج إذاعية وخطب ومحاضرات ومؤلفات وغيرها، وقد ألفته أسماع أبناء هذا الوطن ومن يعيش على ثراه من أقصاه إلى أقصاه عبر العقود الماضية؛ من خلال كثرة برامجه الإذاعية التي لا حدَّ لها ولا حصرَ، منفردًا بأسلوبه السهل الجذَاب الشائق في الطرح، وإيصال الفكرة إلى القلوب قبل المسامع.
القلمُ يظل عاجزا حائرًا، والمقام لا يتسع أن يتحدث عن هذه الشخصية العلمية العظيمة، والكاتب ليس أهلًا أن يفي حديثه حقَّ علمِ العربية الألمعي في عصره، ولعلَّ مقال الدكتور محسن بن حمود الكندي أستاذ الأدب الحديث بجامعة السلطان قابوس، الذي نُشر أواخر نوفمبر الماضي، متحدثا فيه عن فضيلة الشيخ تحت عنوان "الشيخ الأستاذ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي: رجل الاستثناء المبكر.. بين جدلية البصر وعبقرية البصيرة"، جديرٌ بأن يطلع عليه كل شخص؛ ليتعرف على هذه الشخصية الفريدة، وهو مقال رصينٌ عميقٌ أجاد فيه الكاتب -جزاه الله خيرا- الحديث عن سيرة الشيخ الحافلة بالإنجازات والعطاء، ومما ورد فيه "... كان الدكتور إبراهيم رجل المرحلة العلمية بامتياز، مفعما بكل مفاهيم الاستثناء ومقاييسه القيمية، وظل على هذه الحال في حياته كلها، تزكيه في ذلك منازله الأولى في التعليم منذ نعومة أظفاره وفقده لعزيزتيه وهو ابن الخامسة، وتملكه لقدرات الحفظ من الشرف الأول لكل شيء يسمعه أو يتبدى له من بعيد، وبالأخص آيات كتاب الله الكريم، وأحاديث نبيه الشريف، فكأنه وجد ليكون حافظا حاذقًا، وتلميذًا نبيها ماهرا حد العبقرية المفعمة بالتوق الأبدي إلى التفوق ونيل المراتب العليا، في حس طموحي لا يرضى إلا بالوصول إلى القمة مهما كلفته من أثمان غالية"، ويقول أيضا: "... فالكل يقرُّ بعمق علمه وفقهه وورعه وبيانه وزهده وأخلاقه، وحنكته وتفاعله وتجاوزه لمحنته، وشقه لطريقه وتكوينه لمدرسة فقهية نحوية شرعية حديثة، تنطلق من الجوامع والمعاهد والجامعات ودور العلم لتصل إلى رحاب المجتمع برؤية حضارية ومنهج قويم، بل وأسلوب حديث شعاره التلقي البليغ والنقد البناء والكلمة الطيبة المؤثرة لتطال القلب بكل تدفق وانسيابية؛ بعيدًا عن التعقيد والتزمت وغواية التعالي والتفاخر على الآخر".
منذ أعوام عديدة، وأنا أعتمد على فضيلة الشيخ إبراهيم الكندي كثيرًا، وأحسبه أبرز مرجع علمي لي في كل ما أحتاجه من مسائل الشريعة والفقه، وعلوم اللغة العربية، وعلى وجه الخصوص علم النحو الشريف، وقد تفردّ الشيخ -شفاه الله- رغم كثرة مهامه وعظم مسؤولياته بأن فتح هاتفه لكل سائل ومتصل، ومن النادر أن أتصل به دون أن يرد، وقد ألِفَ صوتي من كثرة اتصالاتي به، فصار يعرفني بمجرد السلام عليه، بل لم يمنعه من الرد وجوده في المستشفى إن استطاع ذلك.
ولم يمنعه فقد البصر وتقدم العمر من استغلال الوسائل العلمية الحديثة، وتسخيرها في نشر العلم والمعرفة، مُزينا ذلك بالتواضع الجمَّ، فقد اتصلت به ذات مرة لسؤاله في علم النحو الشريف، فأعطاني الجواب، وبعد وقت وجيز لا يتجاوز خمس دقائق وصلتني رسالة نصية منه، مفادها الاعتذار عن جوابه السابق، موضحا الجواب الصحيح. واتصلت به ذات مرة في سؤال عن الوجوه البلاغية والنحوية لبعض الآيات القرآنية، فبعد إجابته المجملة الوافية، طلب مني أن أرسل إليه بريدي الإلكتروني من أجل إفادتي بشكل أوسع حول ما سألته فيه.. إنّه نور البصيرة!
وقد أشرت في مطلع إصداري الأخير "تيسير النَّحو" إلى أن للشيخ الكندي -شفاه الله وعافاه- فضلًا كبيرا في إنجاز هذا العمل؛ فكتبت ما نصه: "وإنَّه لشرفٍ لي كذلك أن أزجي شكري وعظيم امتناني للعالمينِ الجليلين الشيخ الدكتور إبراهيم بن أحمد الكندي، والأستاذ الدكتور سعيد بن جاسم الزبيدي، على رحابة صدرهما، وسعة بالهما، وغزارة علمهما، فيما طرحته عليهما من أسئلة كثيرة واستفسارات متعددة".
وإذا كُنا نتفق على مكانة هذا العالم الجليل ودوره الكبير وإسهامه العظيم في خدمة العلم ونشر المعرفة في أرجاء هذا الوطن العزيز وخارجه، فإنَّ من الواجب علينا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى أن يشفي شيخنا الجليل، ويرزقه الصحة والعافية، ويبارك في عمره، فلعل دعوة خالصة بظهر الغيب تلقى ساعة استجابة، فاللهم اشفِ شيخنا إبراهيم، وعافه، واعف عنه، وبارك في عمره، وانفعنا بعلمه، واجزه الخير والمثوبة والكرامة في الدنيا والآخرة، إنك سميعٌ مجيب.