الصمت في زمن الزيف

هلال الزيدي

القاعة تمتلئ عن بكرة أبيها.. الجميع يبدون كأنهم خشب مسندة.. هناك وعلى الركن الأيمن يرتكز ناقل الصوت في انتظار من "يُطبّل" عليه.. ليتلو تراتيل الأنا ويعزف على أوتار عدة.. ها هو يعتلي المنصة فيقف شامخاً ليُمارس مهنته التي امتهنها.. فيطفق ضرباً ولكماً بالكلمات.. وبين شطر وسطر يصفق الجمهور ويتفاعل لا لشيء وإنما من أجل ذلك المعتلي "المدعي" لكل شيء.. وهو لا يفقه أي شيء.. ثم يختم ويؤكد بأن الطريق طويل ولكن علينا أن نفعل المُستحيل.. ليعلو الهتاف وترقص القاعة.. هكذا هو الحال أينما تولي وجهك فالجميع باحثون عن مجد السراب المتكئ على الظهور.

أما خارج تلك القاعة هناك ثُلة من الأفراد يسبحون بين مواقع "الفصل" الاجتماعي فيُخالفون حتى يُعرفون.. ويقلدون حتى يثملون فيشتهرون.. ويتقمصون حتى يصلون فتتهاوى عليهم وسائل الإعلام كتهاوي الأكلة على قصعتها ليكونوا وجبة دسمة مُسممة.. فيشتغل ما يسمى بالمجتمع بهم ويحتدم النقاش ليركب الفارغون الموجة فيُنظّرون ويؤطّرون فتتلقفهم الشبكات كأنهم الغزاة الفاتحين فترتفع  قيمتهم التي تعتمد على مزمار وطبل لا يطربان الحي.. فهم وهمٌ متكدس بين متونهم الزائفة الخاوية.. لأننا أتقنا الزيف من أجل تسجيل ظهور مفضٍ إلى ضمور فكري.

 لماذا نركز على الوسيلة وننسف الهدف؟ لماذا احترفنا مهنة التطبيل؟ هل لأننا أصبحنا طبولا يقرع عليها الآخر؟ هل ضعفت قاعدة بناء الفكر فتهاوت الأجيال؟ هل وصلنا إلى مرحلة عدم قدرتنا على السيطرة على ما يُحيط بنا؟

أسئلة كثيرة تبحث عن أجوبة، إلا أن الإجابات تأتي بشكل افتراضي لا يمكن أن تكون شاملة جامعة؛ فقط لمجرد ملء الفراغ الذي دفع الجميع إلى أن يتحدثوا باسم المجتمع، ويكونوا أوصياء عليه حتى يُحرّمون ويُجرّمون ما تقاطع مع أفكارهم المحدودة، فركّزوا على الفرع وتركوا الأصل فضاقت الفكرة وتهدمت المبادئ وظهرت سلوكيات ساقطة سُحبت على أن تكون اتجاهات وموضة عصرية.

الركب وحاديه في اتجاه وهؤلاء في معمة أخرى.. معمعة التجريب المفضي إلى التخريب، فهي نقطة واحدة فَبَدَلَ أن تكون قاعدة تستند عليها الكلمة تحولت إلى فقاعة وغرتها الشهرة وأرادت أن تعتلي المنصة.. فأصبحت وأضحت وأمست خرابا يجر خلفه دمارا.. إنه الغرور الذي أوهم فاعله بمجد السرور، فتمزّقت المعرفة وصارت مقرفة لا تستساغ لأنها متلبدة حتى النخاع، فارتفع وقع الطبول وأصوات المزامير بين رفض وقبول ورقص على أوجاع العامة دون الخاصة.. لأنهم مطبّلون يتقنون فن التصنّع دون التمنّع.. ويتدثرون بالتنمق والتكلف.. ببساطة هم مقتاتون على فُتات ينثر لهم من علٍ فيستبشرون به كأنه الغيث في وقت الجدب.. فتلك هالات وأجساد كأحجار النرد تنثر لتستقيم اللعبة، فيقلبهم اللاعب بين يديه حتى يجتاز مرحلة زمنية.

تلك هي "بقالة" مفتوحة فيها غث وسمين، والكثير تجاوز صلاحياته لكنه معروض بغلاف جميل ومنمق، فيبدو من شكله أنّه العسل، لكن داخله سم زعاف لا يبقي ولا يذر.. وبالرغم من ذلك فإنهم يتهافتون ويتهاون عليه، لماذا؟ لأنهم البشر المؤمنون بالقضاء والقدر حتى وإن كانت الأسباب شر مستطر.. والأرواح عند بابه تحتضر!.

في الجهة المُقابلة هناك الصامتون المرهقون بهول ما يشاهدون.. فهم يتنبأوون بأنّ هذا هو المخاض الذي يُنبئ عن حملٍ مُتعسِّر يتدلى من حبل السيطرة.. وعلى الرغم من أن ذات الحمل لا تستحمله لهول تصرفاته التي بلغت من العنفوان وتبني سياسة التسويف إلا أن ذلك أحد إفرازات الحياة، ومهما يكن الهروب من الحقيقة موجعاً إلا أنه لا يمكن أن يتنكر لمن حملته نطفة فعلقة فمضغة فعظاماً فاكتست العظام لحماً فأصبح نشأة.. فأسكنته في قرارها المكين، حتى وإن تقدمت مصلحة الذات والهوى على المصلحة العامة إلا أن ذلك الانغماس أحد مؤشرات التغيير.. نعم هناك مخاض تشهده الساحة.. مخاض نتكهن خلاله بتغييرات جذرية في مفاصل الحياة بعد أن "لاح ما لاح" من أمر حمل في طياته الكثير من المتغيرات، فلم يعد هناك ما يُخفى برغم ادعاء الآخر قوة مبادئه التي لم تعد تقنع في زمن انفتح على مصراعيه في كل شيء.. إذاً هي الشفافية التي أعلنت عن وجودها برغم أنوف الكثيرين.. حتى وإن علا صوت الدُف.!

الصمت في زمن التطبيل علو بالشأن وسُّمو بالكرامة الإنسانية، فكثرة الكلام "الفضفاض" تميت القلب وتسلب المبادئ، ولا يمكن أن يكون "الطبّال" إلا طبالاً سواء أرقص أم نشّز السمع.

همسة

"اسمحي لي يا الغَرام العَفّ يا الوَجْه السموح.. إِن لَزِمتَ الصَمْت أُو حَتَّى لَبَّسَت الأَقْنِعَة.. أَعْتَرِف لَكّ ما بَقَّيْ مَن عالِي الهِمَّة سُفُوح.. أَنْحَدِر كُلِّيّ كَما طَفَل تحَدِّر مَدْمَعهُ.. وَرَأْس مالِيّ ذِكْرَيات وحُلْم وآمال وطَمُوح.. لا صِدِّيق ولا رَفِيق ولا طَرِيقاً أَتَّبِعهُ.. سامحيني دامَ عُذْرَيْ وَاضِح كُلّ الوُضُوح.. واسمحي لَي بِالرَحِيل بِلّا تَذاكِر وأَمْتَعَة".

(الشاعر الأمير نواف بن فيصل آل سعود "أسير الشوق").

abuzaidi2007@hotmail.com