القدس.. قضية عربية وإسلامية وإنسانية

صالح البلوشي

بعد دقائق من اعتراف الرئيس الأمريكي ترامب بمدينة القدس العربية الإسلامية المحتلة عاصمةً للكيان الصهيوني المحتل، كتبتُ في موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" عدم استغرابي من صدور هذا الإعلان المشؤوم، الذي وصفته وزارة الخارجية العمانية بأنه "لا قيمة له"؛ لأن السنوات الأخيرة شهدت تطورات سياسية خطيرة في المنطقة العربية، كان بعضها يهدف لتبرئة الكيان الصهيوني من صفة "العدو الأول للأمة" وخلق أعداء آخرين، متمثلاً في دول عربية وإسلامية، وبدأنا نسمع ونقرأ من بعض من كنا نحسبهم كتّابًا كبارًا ومفكرين -الذين تعلّمنا منهم أن فلسطين هي ليست قضية العرب والمسلمين فقط، وإنما قضية الإنسانية على مرّ الدهور والعصور- أن القدس ليست قضيتنا، وأن فلسطين لم تعد محور اهتمامنا، ولم يقف الأمر عند التبرّؤ من القدس والقضية الفلسطينية، وإنما امتلأ موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" بالتغريدات التي تَبَارَى فيه بعض الكتاب والمغردين في التغزل بالكيان الصهيوني، وذمّ الفلسطينيين واتهامهم بأنهم يتحمّلون احتلال فلسطين، وأنهم باعوا أرضهم لليهود، وغيرها من الاتهامات الرخيصة التي لم تصدر حتى من الصهاينة أنفسهم، وكأن هؤلاء الكتّاب يزايدون حتى على الصهاينة في الدفاع عن الكيان الغاصب، وتطورت القضية من تغريدات في "تويتر" ومقالات في بعض الصحف، إلى لقاءات مباشرة ورحلات متبادلة، وحفلات راقصة مشتركة، وما كان يحدث بالأمس سرًّا، أصبح اليوم يُمارس في وضح النهار ودون أي خجل، حتى مؤتمرات التضامن مع الشعب الفلسطيني استبدلت بأخرى للتطبيع مع الكيان الصهيوني.

لذا، لم أستغرب أيضا أن أقرأ في موقع قناة الجزيرة، بتاريخ: 16/12/2017 أن "عبد الحميد حكيم مدير معهد أبحاث الشرق الأوسط في جدة -غرب السعودية- قال خلال تصريحات لقناة الحرة الأمريكية التي تُبث باللغة العربية: إن على العرب التفهّم والاعتراف بأن القدس رمز ديني لليهود، مثلما أن مكة المكرمة والمدينة المنورة رمزان دينيان مقدسان لدى المسلمين"، وقد شاهدت هذا اللقاء بعد ذلك في موقع "يوتيوب" على شبكة الإنترنت العالمية، ولا أدري ماذا يفعل عبدالحميد حكيم بالآية القرآنية: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ"، ولا أدري ماذا يفعل أيضا بالأحاديث التي وردت في أصحّ كتب الأحاديث عند المسلمين، التي تتحدث عن قدسيّة بيت المقدس والمسجد الأقصى! ولا أدري ماذا يقول عن اعتبار المسلمين: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والمسجد الأقصى أماكن مقدسة! فجميع هذه النصوص تؤكّد أن القدس ليست قضية عربية فقط وإنما قضية إسلامية أيضًا، والدفاع عنها مسؤولية جميع المسلمين على اختلاف قوميّاتهم ومذاهبهم وألوانهم، وأخشى أن يظهر علينا غدًا من يقول: إن المسجد الأقصى ليس في القدس وإنما في أمريكا اللاتينية، وأن بيت المقدس المذكور في كتب الحديث هو في شرق آسيا، مع العلم بأن الجميع -من مسلمين ومسيحيين ويهود- يعترفون بأن القدس مكان مقدس للديانات الثلاث.

ومن الأكاذيب التي يُروّجها المتصهينون في بعض الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي: أن الكيان الصهيوني لم يَعْتَدِ علينا، فلماذا نعاديه إذن؟ ولا أدري من يخاطب هؤلاء الكتاب؟! فهل يخاطبون الشعوب العربية فعلاً؟ أم يخاطبون شعوبا أخرى لا تعرف شيئا عن القضية الفلسطينية! أم أن هؤلاء يعتقدون أن الذاكرة العربية قد أصابها الشلل فجأة ولا تستطيع أن تفرق بين العدو والصديق؟! فهذه الشعوب لا تنسى أن هذا الكيان يحتلّ دولة عربية اسمها فلسطين، والذاكرة العربية لا ولن تنسى أن هذا الكيان شنّ أكثر من خمس حروب على الدول العربية، ولا يزال يحتلّ أراضي من لبنان وسوريا، إضافة للأراضي الفلسطينية المحتلة، والذاكرة العربية لم ولن تنسى جرائم الصهاينة في فلسطين ولبنان ومصر وسوريا...وغيرها، وكأنّ هذا الكيان لا يحاصر غزة منذ عدة سنوات وإنما دولة أخرى. وأعتقد أن الجرائم الصهيونية بحق العرب والمسلمين والإنسانية لا تستطيع الجبال حملها ولا مجلدات كبيرة استيعابها، ولكن مع ذلك يظهر لنا مرتزق هنا ومتصهين هناك يدعو إلى أن الكيان الصهيوني دولة مسالمة وتحب السلام، وأن الشر كل الشر يتجسّد في بعض الدول العربية والإسلامية.

وإن قضية القدس هي قضية إنسانية؛ لأن هذه المدينة المقدسة لا تقتصر قداستها على المسلمين فقط، وإنما هي مقدسة للمسيحيين واليهود (وليس الصهاينة) أيضا، وبالتالي لا يمكن لأي دين أن يسيطر على المدينة ويهمش الأديان الأخرى، وقد عاش العرب المسلمون في هذه المدينة مئات السنين دون أن يطردوا أتباع الديانات الأخرى، وإنما كانوا يكنّون لهم كل الاحترام، ولذلك قوبل قرار ترامب برفض عالمي من جميع الدول.

وختامًا: مهما حاولت الجيوش الإلكترونية، ومهما حاول بعض الكُتّاب المحسوبين على الثقافة تزييف الواقع، وتجميل صورة الكيان الصهيوني في العالم العربي؛ فإنها لن تستطيع محو جرائم هذا الكيان من الذاكرة العربية، بدليل أنه حتى الدول العربية التي لديها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل؛ ترفض شعوبها التطبيع مع هذا الكيان، والشعوب العربية تحب السلام وتتطلع إلى اليوم الذي يرجع فيه الفلسطينيون إلى ديارهم، ولكنها تحب سلام الشجعان، وليس سلام الخنوع والاستسلام.