عليك أن تختار: إمّا مسؤولاً أو تاجراً!

هلال الزيدي

ونحن نعيش فترة استشراف المستقبل ورسم الخطط الاستراتيجية التي تكفل لنا وضوح وديمومة وشمولية في المجالات كافة فإنّه لابد من تهيئة إجرائية تتفق مع ظروف المستقبل حتى نضمن لأجيالنا حياة كريمة، ولا يمكن أن نحقق ذلك مع تجاهل الوضع الراهن في إدارة المؤسسات التي تعتمد على قوة النفوذ المادي والعمل على تكريس قاعدة " المسؤول التاجر" كونها تنافي مبادئ دولة المؤسسات التي تعتمد على صياغة أنظمة وقوانين راسخة وشاملة وجامعة لا تستثني أحدا من المكونات الاجتماعية، لذلك علينا أن نؤسس منظومة تنزيه المناصب القيادية عن شوائب ازدواجية المصالح من أجل القضاء على المصلحة الذاتية التي استحكمت في العديد من المفاصل المهمة فكان لها أثر سلبي في توزيع الثروات وبدورها تنامت الطبقية المجتمعية واستفحلت الهشاشة الاجتماعية.

إذاً وبالاعتماد على المنظور الواقعي خلال الـ47 سنة الماضية كان التاجر هو المسؤول الذي يتخذ قرارات تتماشى مع القيمة السوقية لممتلكاته وبالتالي تعقدت الكثير من الأولويات واختلطت مع الحاجة الشخصية، لذلك علينا أن نضع بونا شاسعا ونرسم خطاً فاصلاً بين تقلد المناصب القيادية أو التفرّغ لممارسة أي نشاط تجاري، ولعل هنا البعض يشير إلى الإفصاح عن الممتلكات أو ما يسمى ببراءة الذمة والتي تكاد تكون معطلة لذلك تمددت الازدواجية حتى أصبحنا غير قادرين في تصنيف الشخصيات ذات المناصب هل هم تجار فاعلون مجتمعيا أم مسؤولون يمارسون صلاحياتهم وفق إطار الوظيفة؟

إذا أردنا تطبيق قانون ينظم هذه العملية فلا بد من الاعتراف بحجم هذه المشكلة، ومن سنن رسم المستقبل علينا أن نوجد أجيالا تفرق بين المنصب القيادي والنشاط التجاري ولا يمكن الجمع بينهما؛ هذا طبعا في حالة رغبتنا تحقيق النزاهة للمحافظة على قوة دولة المؤسسات لذلك، من هنا وجب علينا تحديد المناصب العليا ابتداءً من الوزير والوكيل والمستشار وليس انتهاءً بالمدير العام لنبدأ في استشراف المستقبل وحتى نحقق ذلك نحتاج إلى دور رقابي أكثر فاعلية مع التوسّع في منحه الصلاحيات بعيداً عن المحاباة والتعاطف بحجة عدم إثارة البلبلة الإجتماعية.

إنّ المسؤولية المبنية على المنصب تُلزم الإنسان بالكثير من المبادئ التي يجب أن يحترمها ويضعها نصب عينيه، وأهم تلك الالتزامات "الأمانة"، فلو اختلط المنصب بالمصلحة الخاصة ـ مثلا: وجود شركة مملوكة ومدارة من قبل المسؤول ـ فلا يمكن أن تتحقق الأمانة في منح المشروعات لتلك الشركة حتى وإن كانت مسجلة لابن المسؤول أو زوجته أو أحد أقربائه "كإدارة الظل" فهنا تظهر المحاباة في إرساء المناقصة لتلك الشركة، وإن كانت عن طريق التنافس المشروع يبقى المسؤول حريصا على أن تستفيد أطرافه من تلك العملية عبر التدخل في كل شاردة وواردة، لذلك كان من الضروري أن نطلق الأمانة كي تأخذ مجراها أو نضع القوانين قيد التنفيذ حتى تتحقق العدالة.

إنّ الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة في تفريغ رواد الأعمال من وظائفهم كانت إحدى البوادر التي تأكد على عدم الجواز الجمع بين الوظيفة والمشروع الخاص حتى لا يتم استغلال المنصب أو الوظيفة، فكانت الجهات المختصة صارمة في تطبيق ذلك، والسؤال المطروح هنا: لماذا لا يكون هذا مطبق على مختلف المستويات وخصوصًا المناصب القيادية الآنفة الذكر؟

الجشع أو ما يُسمى تأمين المستقبل- إن جاز لي التعبير- هو أحد الظروف التي يبني عليها المسؤول حاجته، فيرى أنّه من الأهمية أن يفكر في مورد لا ينضب بعد انتهاء فترة استحواذه على المسؤولية، فيرى بأنّ العمل على تأسيس عمل خاص من بوابة المسؤولية حق مشروع لأنّه عمل واجتهد وأفنى وقته في مراعاة المسؤولية المُلقاة على عاتقه، فبالتالي ذلك شيء من الحقوق التي يجب أن يكافأ بها، وليس هذا بغريب لأننا نبرر كل شيء بحسب ما نهوى، حتى وإن كان ذلك التبرير مُخزيا في تفاصيله أو نواياه، على أية حال فهذا غير مقبول إطلاقاً إن أردنا أن نؤمن بمسار دولة المؤسسات.

على الجهات المختصة أن تقوم برسم خارطة طريق وتحدد الهدف الواضح للوصول إلى توصيف دقيق للمسؤولية مع وجود الأطر الواضحة للفصل بينها وبين التجارة أو مزاولة مشروع خاص، ولعل هذا المطلب لا يتحقق بين ليلة وضحاها، وإنما نحتاج إلى تمهيد نوضح فيه بأننا وبحلول 2030 ـ على سبيل المثال ـ ينتهي عهد المسؤول التاجر، ولا يمكن للتاجر أن يكون مسؤولاً مهما كانت الظروف.

همسة:

"يا أيّها الملأ افتوني: هل يمكن أن يجمع المسؤول بين المسؤولية وتجارته؟".

 

abuzaidi2007@hotmail.com