صالح البلوشي
في نهاية العام 2016، كتبتُ مقالا في جريدة "الرؤية" بعنوان: "هل سنشهد العام القادم نهاية داعش؟"، فما كان يحدث على الأرض في سوريا والعراق؛ ينبئ بسقوطٍ حتمي لهذه الجماعة القروسطية الإرهابية؛ حيث كان الجيش العراقي والحشد الشعبي بمساعدة الطيران الأمريكي يتقدمان بشكلٍ كبيرٍ في المدن العراقية، التي كانت ترزح تحت سيطرة هذه الجماعة، وكانت تجابه بصمودٍ كبيرٍ جدا من "داعش"، خاصة في الموصل التي استغرق تحريرها أكثر من ثمانية أشهر. أما في سوريا، فقد استطاعت قوات سوريا الديمقراطية -الكردية- تحرير مدينة الرقة، عاصمة الخلافة الداعشية، بينما تقدم الجيش العربي السوري والقوات الحليفة في جبهات أخرى واستطاعت تحرير مدن مهمة جدا كانت بحوزة "داعش" لعدة سنوات.
يوم السبت الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي سيطرة الجيش العراقي بشكل كامل على الحدود السورية العراقية، مؤكدا "انتهاء الحرب" ضد تنظيم الدولة الإسلامية في البلاد. وقال العبادي -خلال افتتاح مؤتمر الإعلام الدولي في بغداد- إن "قواتنا سيطرت بشكل كامل على الحدود السورية العراقية، ومن هنا نعلن انتهاء الحرب ضد داعش (تنظيم الدولة)".
المؤشرات على الأرض تدل فعلاً على أن "داعش" انتهت عسكريا، ولم يتبقَ من التنظيم سوى بعض القيادات الهاربة التي تختبئ في أماكن مختلفة في سوريا والعراق وربما أماكن أخرى أيضا، ولكن "داعش" ليست فقط هذا التنظيم العسكري القروسطي المتوحش، الذي كان يقاتل في سوريا والعراق وليبيا؛ فنهاية هذا التنظيم كانت حتمية وإن حدثت بصعوبة بالغة؛ ولكن الجانب الآخر في "داعش" هو الفكر الذي تنتمي إليه، والأيديولوجية التي قاتلت تحت رايتها من أجل بسط نفوذها في المنطقة. "داعش" هي الفكر الذي يجعل شخصًا مُدَجَّجًا بكمية عالية من الحقد الأيديولوجي والطائفي، يدخل مطعما شعبيا في قرية عراقية مسالمة ويفجر نفسه وسط حشود من الناس البسطاء، الذين لم يكن همهم في الحياة سوى توفير لقمة العيش لهم ولأبنائهم. "داعش" هي الخطاب المتطرف الذي جعل شخصًا أكاديميًّا في دولة خليجية يخاطب أنصاره بأنه يريد عشرة أسرى من تنظيم مُحارب لـ"داعش" ليستمتع بلذة ذبحهم من الوريد إلى الوريد. "داعش" هي العقيدة التي تنبش في كتب التراث للبحث عن فتوى تسمح بحرق أسير، بحجة أنه مرتد عن الدين ومحارب لله ورسوله، وما على القارئ سوى الرجوع إلى كتاب "مسائل في فقه الجهاد" لأبي عبدالله المهاجر، الذي يسمى أيضا بـ "فقه الدماء"، والذي يعدُّ المرجع الفقهي لدى هذه الجماعة القروسطية، فهو يكفّر كل من لا يدين بالولاء لزعيمه البغدادي، ويعتبره مرتدًا وخارجًا عن الدين؛ وبالتالي يستحق القتل؛ حيث يقول في الصفحة رقم 29: "كل كافر لم يؤمنه أهل الإسلام بعهد من ذمة أو هدنة أو أمان؛ فلا عصمة له في دم أو مال"، ويدخل في عنوان الكافر عندهم: كل من لا يعترف بخلافة أبي بكر البغدادي.
تنظيم "داعش" انتهى عسكريًّا في العراق وسوريا؛ لكنه باقٍ في كتب التراث، التي تحقق من قبل باحثين كبار، وتُنشر في معارض الكتب في العالم، وتباع بأسعار زهيدة. "داعش" تعني خطاب التكفير والإقصاء والتهميش واستدعاء تاريخ السلف بقراءة أصولية طائفية، خاصة الصراعات الطائفية.
"داعش" تعني المؤسسات التي تنتشر هنا وهناك تحت مسميات متعددة؛ مثل: الخيرية، والتراثية، والعلمية...وغيرها، وتستغل هذه العناوين من أجل جمع التبرعات وإرسالها إلى الجماعات المتأسلمة المتطرفة. ولولا هذا الدعم، لما استطاعت هذه الجماعات القروسطية أن تستمر طوال كل هذه السنوات في نشر القتل والرعب في العالم. "داعش" تعني الفضائيات التي تُموّل من بعض الدول الغنية، وتغذي العقل المسلم بمئات وآلاف البرامج الطائفية والتكفيرية التي تبحث في قضايا أكل عليها الدهر وشرب؛ مثل: من الأحق بالخلافة بعد النبي محمد عليه الصلاة والسلام؟ هل هو علي أم أبو بكر؟ ومن قَتَل الحسين؟ ومن الذي ساعد على سقوط الخلافة العباسية؟ وهذه الأسئلة طرحت وكتبت فيها آلاف الكتب منذ مئات السنين إلى اليوم ولم تقدم شيئا للمسلم، سوى تغذية الخلافات الطائفية ونشر خطاب الكراهية في المجتمع.
وأخيرا.. طالما لم يستقر شكل النظام السياسي في الدول العربية، وبقيت الأزمات الاقتصادية الحادة تراوح مكانها، واستمر الخطاب الديني الإقصائي المتشدد في مكانه، وبقيت الطائفية حاضرة بقوة في الخطاب السياسي العربي، ولم تُنقح المناهج الدراسية من خطاب التطرف والتكفير والإقصاء، فإن ظهور "داعش" وربما دواعش جديدة -سواء بنسخ سنية أو شيعية- حاضرة بقوة وتنطلق في أية لحظة، وربما تكون أخطر من "داعش" التي انتهت بهزيمتها العسكرية في العراق وسوريا.