كيف تعاطى جلالة السلطان مع التحديات؟ (2-2)

 

عبد الله العليان

لا شك أنّ النهضة العمانية الحديثة، التي قادها جلالة السلطان المعظم- أيّده الله- انطلقت إلى البناء لتستعيد إرثها التاريخي بجانب التفاعل مع العصر واحتياجاته، وفق برامج وخطط خمسية، تعتمد على التوازن بين ثوابتها التي تستمد منه هويّتها وعاداتها، وبين حاضرها تعايشه وتنطلق منه إلى المستقبل الذي لابد من الاستعداد له، من حيث اللحاق بركب التقدم المنشود، وهذا البناء والانطلاق الحضاري الذي سعت إليه بلادنا، أساسه العلم وهو الذي لا تملك الإنسانية جميعها إلا وضعه في حسابات لكل منطلقات الشعوب وتقدمها.

ويتحقق هذا الهدف من خلال الإنسان العماني، وعن طريق العلم والتأهيل، حتى يتم هذا النهوض على أسس متينة وناجحة، وهذا ما عبّر عنه جلالته في العيد الوطني السادس والعشرين، في قوله من أنّ "الدولة تولي اهتمامًا بالغا لتنويع الاقتصاد الوطني، وتوفير فرص العمل والتدريب للمواطنين". غير أنّ ذلك لا يعني كل شيء في مضمار ما نسعى إليه من بناء الإنسان العماني وإعداده للمستقبل؛ إذ أنّ هذا البناء والإعداد لا يتمان- في نظرنا- بمجرد توفير أسباب الرفاه المادي، والرخاء الاقتصادي، والتدريب المهني الذي يؤمل الفرد لشغل وظيفة ما في الحكومة أو القطاع الخاص، وإنما لابد- إلى جانب كل ذلك- من اتخاذ كل الوسائل الكفيلة بتربية المواطن تربية صالحة، وإمداده بالعلم والثقافة، وتهيئته بصورة متكاملة وشاملة تجعل منه عنصرًا منتجا في مجتمعه، مدركًا لما فيه صالح أمته، ذا بصيرة نافذة وتقدير سليم للأمور، ليتمكن بذلك من خدمة وطنه، ومن المشاركة في صنع القرار الصحيح على مستويات متعددة تختلف باختلاف موقعه في البنيان الاجتماعي.

ومن هذه المنطلقات سارت النهضة العمانية الحديثة، على أسس من التعليم والتثقيف منذ بزوغ فجر النهضة، متمثلاً في إقامة المدارس في كل أنحاء عُمان، ثم من خلال تأسيس الجامعات والكليات والمعاهد العليا، لتخريج الكفاءات الوطنية في كافة التخصصات العلمية والمعرفية والمهنية، فبالعلم يتم النهوض والتقدم والتنمية الحقة، وهذا ما ركزت عليه بلادنا منذ بداية الانطلاقة، لمواكبة كل جديد في عالم المعرفة التي أصبحت عوالم  كثيرة من العلوم التكنولوجية، وجاء تقدم التقنية بصورة لافتة، وتمّت إتاحتها للجميع لأن العالم أصبح قرية عالمية بفضلها، ومنها بلادنا بحمد الله التي تفاعلت بكل جديد في عالم المعرفة الجديدة، ومن خلال الفضاء المفتوح للتقنية التكنولوجية، فلا يمكن أن تتحقق التنمية الحقة والتحديث المنشود والتقدم الذي تسعى إليه نهضتنا الحديثة، إلا من خلال العلم والتعليم.

هذا ما أشار إليه جلالته في خطابه بمناسبة افتتاح جامعة السلطان قابوس عام 1986 عندما قال: "إننا نعيش عصر العلم ونشهد تقدمه المتلاحق في جميع المجالات، وإن ذلك ليزيدنا يقينا بأنّ العلم والعمل الجاد هما معاً وسيلتنا لمواجهة تحديات هذا العصر وبناء نهضة قوية ومزدهرة على أساس من قيمنا الإسلامية والحضارية، وإنه ليتوجب عليكم شباب الجامعة أن تضعوا ذلك نصب أعينكم دائما وتكرسوا كل جهودكم للتزود بالعلم وبكل ما ينمّي قدراتكم ويعدكم للمهام التي تنتظركم بعد التخرّج لتؤدوا واجبكم الوطني المقدس وتشاركوا بكل جدارة ومقدرة في تحقيق ما نرجوه لعماننا العزيزة من تقدم وازدهار".

وأضاف جلالته في فقرة أخرى عن أهمية التأهيل الأكاديمي وضروراته في هذا الخطاب التاريخي في افتتاح جامعة السلطان قابوس بقوله: "إنّ الجامعة إذ تباشر رسالتها لبناء كوادر وطنية مؤهلة علمياً على أرقى المستويات فإنّ المسؤولية الملقاة على عاتقها تتطلب منها في المقام الأول العناية بترسيخ القيم والتقاليد الأصيلة التي يعتز بها شعبنا كل الاعتزاز، والاهتمام بإبراز تراثنا العماني الحافل بالأمجاد ليستمد أبناؤنا من هذا كله ما ينير أمامهم الطريق ويحفزهم للعطاء على تحقيق المزيد منها في خدمة الوطن والحفاظ على مكتسبات نهضته والعمل على تحقيق المزيد منها في إطار مسيرتنا الجادة على طريق التقدم والنماء".

هذا بالفعل ما حققته هذه المؤسسة العلميّة والأكاديمية في كل برامجها وأنشطتها العلمية والعملية، مع افتتاح الجامعات والكليّات الأخرى، سواء الحكومية منها أو الأهليّة، ومن ذلك الخطوات التي تم وضعها في الارتقاء بالتعليم، ووضع السياسات التي تضطلع بتحسينه وتطوره، ومنها بناء الإنسان العماني الذي، كما أشرنا آنفاً، باعتباره الهدف الذي تسعى إليه الخطط والبرامج، سواء التعليمية، أو غيرها من الاحتياجات التأهيلية وأهمها التعليم العالي ومتطلباته.

وهذا ما تمّ بعد أن ازداد عدد خريجي الجامعات والكليات المتخصصة؛ حيث بدأت الدولة تضع البرامج للدراسات العليا في كل المجالات التي تحتاجها بلادنا، سواء في المجالات العلمية، أو في مجال العلوم الإنسانية، وهذا ما أشار إليه جلالته في إحدى خطبه عن الحاجة للتعليم العالي من حيث التخصصات التي تفي بحاجات البلاد المختلفة، وأهمية استلهام كل جديد فيما يستجد من هذه المعارف والعلوم وما يطرأ فيها "عندما نصل بالتعليم إلى الدرجات العليا، فنحن مطالبون بأن نضيفَ إلى تلك المعارف معارفَ جديدة، أن نبحث، نستنبط، أن نفكر، أن نتدبر، وعلينا أيضًا أن نصحِّح معارفَ من سبقنا لأنَّه في كثيرٍ منها نظريات والنظريات تكون متجددة، فلا نقول إنَّ ما وصلوا إليه في الماضي هي المعرفة.. لا، المعرفة ليست مطلقة، المعرفة متجددة". وهذا هو القول الدقيق والسليم في العلم ومستجداته، التي لا شك أنّها في تحول كبير وفي تطور مستمر، ولذلك فإنّ التوجه الذي سارت عليه الدولة في كل برامجها العلمية، هو اللحاق بركب العلم والمعرفة، ومتابعة كل جديد في هذه التطورات التي لا شك أنّها متسارعة بفضل التطور التكنولوجي الذي أصبح ثورة علمية، ولم تعد هذه العلوم والمعارف، بيد دولة أو دول بعينها، بل إنّ التقدم في هذه العلوم أصبح في كل العالم؛ وإنّ كان هناك تفاوت بين دولة وأخرى.

لقد انطلقت بلادنا بحمد الله في مسيرتها النهضوية في المواكبة السريعة لتحصيل العلم في كافة تخصصاته، واستثماره في التنمية، وفي استغلال الموارد الطبيعية، وإدارتها من قبل الكوادر العمانية المؤهلة؛ والتي تديرها بكل اقتدار.