عبيدلي العبيدلي
تفاوتت ردود الفعل العربية والعالمية من "الطوفان السعودي"، وتأرجحت بين الدهشة التي شلت تفكير وحركة أصحابها، والاستغراب الذي هو الآخر أرغم أصحابه على التريث قبل إصدار حكم منطقي يستطيع أن يفهم الأسباب، ويستقرئ -في ضوء انعكاساتها- النتائج.
لكن لو تمعنا في "الطوفان السعودي"، سنجده غير بعيد عما اجتاح المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة؛ فربما نكتشف أن السعودية كانت من بين "فرق" الدول العربية التي استطاعت أن تتفادى -لأسباب كثيرة ليس هنا مجال سردها- تداعيات الحدث العربي على أرضها، وبالعنفوان الذي شهدته دول أخرى، خاصة في مراحله المبكرة.
القراءة الصحيحة البعيدة عن الانفعال العاطفي السريع، غير المطلوب وغير المفيد أيضا، من الموقف السعودي، ينبغي لها أن تضع الساحة السعودية في نطاق خارطتها الكبرى وهي المنطقة العربية، التي تعيش مخاضا عسيرا، تعود جذوره القديمة إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحديثة منها بعد وصل الخميني للسلطة بعد الإطاحة بنظام الشاه.
وكي لا نغرق في تفاصيل التاريخ، وهي في المنطقة العربية كثيرة وعميقة ومتنوعة، سنقرأ الحدث السعودي في الإطار العربي، خلال الفترة التي أعقبت الإطاحة بشاه إيران، متوقفين عند محطة دولية في غاية الأهمية وهي تداعي هياكل قصور الإمبراطورية السوفييتية، واندفاع الولايات المتحدة في الاستفراد بصياغة خارطة العلاقات الدولية، تحت أوهام عملها وفق قوانين وأنظمة "عالم القطب الواحد"، وهو -من منظار المفهوم الأمريكي المتعجرف- القانون الذي تصيغه واشنطن، وتضع دوائرها المختلفة تطبيقاته الدولية.
سقوط شاه إيران، شكَّل خسارة فادحة للعدو الصهيوني؛ نظرًا للعلاقات الإستراتيجية الوثيقة التي كانت تربط طهران، حينها، بتل أبيب. فكان لا بد من إعادة موازين القوى، بما يمنح العدو الصهيوني ما فقده على المستوى الإقليمي، الذي لا يعوضه، عند فصل منطقة الشرق الأوسط، ولو بشكل تعسفي، غياب روسيا، ولو بشكل مؤقت، عن المشهد السياسي الشرق الأوسطي.
هذا على المستوى السياسي، لكن ما هو أكثر أهمية: كان الارتفاع الفجائي في أسعار النفط، وانعكاس ذلك على السيولة النقدية المتعاظمة لدى الدول العربية المصدرة للنفط.
كل ذلك أرغم تل أبيب على مراجعة حساباتها على نحو سريع، لكن وفق منهجية إستراتيجية، تقوم على قراءة الواقع على نحو صحيح غير منفعل، كي تستقرئ المستقبل على نحو أفضل، بما يضمن لها إحكام قبضتها على التحولات المفصلية في منطقة الشرق الأوسط، ويكفل لها خروج اللاعبين الأساسيين الذي يشكلون خطرا مباشرا عليها، ولو بشكل مؤقت، يضمن لها استرجاع أنفاسها، من ساحة الصراعات الشرق أوسطية.
وجدت تل أبيب أن سياستها، كي تضمن أمنها، تقوم على ركيزة أساسية لا تغيب عن بال صناع القرار في دوائرها، وهي ضمان استمرار إنهاك الجسد العربي، على أن يكون هذا الإنهاك إستراتيجيًّا أفقا، وشاملًا تنفيذيا، ومستمرًا عمليًّا، وعلى كل الصعد.
فعلى الصعيد الاقتصادي، ينبغي استنزاف الخزينة العربية، خاصة تلك التي تتضخم موجوداتها من ريوع الأسواق النفطية، بما يضمن عدم الاستفادة منها في القيام بأي شكل من أشكال التنمية الحقيقية التي من شأنها أن تشكل مجتمعا عربيا -حتى وإن كان غير موحد- قادرا على الاعتماد على نفسه في بناء موارده الذاتية وفي المقدمة منها الموارد البشرية. وإذا اعتبرنا النظام التعليمي أحد أعمدة التنمية البشرية، فمن الخطأ القاتل إبعاد الأصابع الصهيونية عن التدهور الذي شهدته المنظومة التعليمية العربية خلال السنوات الخمسين التي أعقبت تشكيل الكيان الصهيوني. نقول ذلك دون أن نعفي أنفسنا من مسؤولية هذا التدهور، وعلى وجه الخصوص في الجانب التعليمي.
أما على المستوى العسكري، فقد حرصت الدوائر الصهيونية على ألا يقتني العرب من الأسلحة المتطورة ما من شأنه إحداث تغيير نوعي في موازين القوى العسكرية العربية-الصهيونية. إما من خلال ضمان حصول تل أبيب على آخر ما تنتجه مصانع السلاح الأمريكية من معدات وأنظمة حربية، وإما بإجراء تعديلات نوعية على ما يقتنيه العرب من تلك الأسلحة بحيث تفقد نسبة لا يستهان بها من قدراتها العسكرية: معدات كانت تلك الأسلحة أم منظومات إدارية ولوجستية. وهنا تعانق الاقتصاد مع العسكر؛ حيث لم يقف الكيان الصهيوني في وجه عقد صفقات السلاح العربية - الغربية، كونها من جهة أخرى تمارس دورها في ضمان استمرار الإنهاك الاقتصادي العربي.
رافق ذلك -وفي النطاق العسكري أيضا- ضمان الكيان الصهيوني استخدام العرب لتلك الأسلحة في حروبهم الداخلية؛ سواء في إطار البلد الواحد، أو بين بلدان عربية مختلفة؛ لذلك من الخطأ القاتل، والسذاجة المفرطة في عفويتها، قراءة "الاقتتالات" العربية المتكررة والمتصاعدة خلال السنوات الثلاثين الماضية، بعيدا عن براثن الكيان الصهيوني، وسعيه الحثيث المنظم لإنهاك القوى العربية.
بعد ذلك، نأتي للشق السياسي في الإنهاك، وهو الأشد خطرا، والأكثر استمرارية وتكرارا. لقد مارست تل أبيب دورا واضحا وملموسا في إشعال فتائل الكثير من الحروب العربية في الآونة الأخيرة. ليس ذلك من قبيل السقوط في أسر نظرية المؤامرة، كما قد يبدو للوهلة الأولى. فقد كشفت دوائر استخباراتية عالمية عن علاقات، لن نصفها بالحميمة، بين تل أبيب ودول عربية، خاصة تلك الغيرة منها. من الخطأ القول بأن تل أبيب هي من فجر تلك الحروب، لكنها استفادت منها، وعملت على تأجيجها، وغذت أسبابها. وسقط العرب، بوعي أو بدون وعي ضحية سهلة في أحضان تلك الخطط الصهيونية التي أحكم رسمها، وأتقن تنفيذها.
... إن الإنهاك مرض يتداعى، ويفرز أمراضا أخرى، هي التي باتت تنهش الجسد العربي، وتحطم سدود مناعته الواحد تلو الآخر. لذا بات المطلوب -إن شئنا وقف هذا التدهور- أن نبدأ بوقف عناصر هذا الإنهاك، وعلى كل المستويات المشار لها أعلاه.