مقدمات سقوط الأحادية القطبية الأمريكية

ماهر القصير - السعودية
باحث في السِّياسة الدُّوليّة


بعد سقوط الاتحاد السوفيتي المدوي وانهيار المنظومة الشرقية التي كانت تدور في فلكه سنحت الفرصة واتسع المجال أمام الولايات المتحدة الأمريكية للانفراد بقيادة العالم بشكل أحادي ولكنها لم تحاول خلق قوى إقليمية تضبط لها الإيقاع السياسي والاقتصادي بما يتوافق مع استراتيجيتها بعيدة المدى وتساعدها في هذا التفرد العالمي, حيث لو فعلت لكان لها أن تتفرغ للبناء الاقتصادي الداخلي بالتوازي على الحفاظ على مناطق نفوذها, لكن أمريكيا نفسها لم تدرك هذه القوة والنفوذ التي أصبحت تمتلكها في هذه الفترة فلم تسطيع التأقلم مع الوضع الامبراطوري العالميّ الجديد الملقى عليها في إدارة العالم؛ بل تصرفت كدولة عظمى قاريّة وليس كإمبراطورية عالميّة عليها واجبات مطلوبة منها, وأهم مطلب هو عدم التمدد العسكري المغالى فيه حتى لا تدخل في دوامة الاستنزاف العسكري وتنشيء حلفاء إقليميين يؤدون هذا الدور دون أن يكلفها ذلك من خزانتها شيئا.
وتبرز هنالك ثلاثة تفسيرات لزوال القطبية الأحادية حسب ريتشارد هاس:
التفسير الأول تاريخي: فالدول تتقدم حيث إنّها تتحسن في توليد وتجميع الموارد البشرية والمالية والتكنولوجية التي تؤدي إلى الإنتاجية والازدهار. وينطبق الكلام ذاته على الشركات والمؤسسات الأخرى. ولا يمكن إيقاف نشوء هذه القوى الجديدة، فينتج من ذلك عدد متزايد أبداً من الفاعلين القادرين على التأثير إقليمياً أو عالمياً.
والتفسير الثاني: هو سياسة الولايات المتحدة بما قد فعلته وما فشلت في فعله، حيث سرّعت من ظهور مراكز قوى بديلة في العالم وأضعفت موقعها الخاص بالنسبة إليها. ومثّلت سياسة الطاقة الأميركية (أو غيابها) قوة دافعة كانت وراء نهاية الأحادية القطبية. فمنذ أزمات النفط الأولى في السبعينتات من القرن الماضي، ازداد استهلاك الولايات المتحدة من النفط بنسبة 20 في المئة تقريباً.
أما التفسير الثالث: أنّ حجم الواردات الأميركية من المنتجات النفطية ارتفع بنسبة جاوزت الضعف، ويكاد معدل استهلاكها يتضاعف وقد ساعدت زيادة الطلب على النفط الأجنبي هذه على ارتفاع السعر العالمي للنفط من 20 دولاراً فقط للبرميل إلى ما يفوق 100 دولار للبرميل في أقل من عقد من الزمن. وكانت النتيجة تحوّلاً هائلاً للثروات والفعالية إلى تلك الدول التي تمتلك احتياطات الطاقة. باختصار، ساعدت سياسة الطاقة الأميركية على بروز منتجي النفط والغاز كمراكز قوى أساسية.
أما المرحلة اللاقطبية بدأت مع الدخول الأمريكي لأفغانستان و العراق 2001، فأدى هذا الخطأ لاستنزاف الغرب وصعود قوى عالميا أخرى (الصين والهند وروسيا واليابان والبرازيل وجنوب أفريقيا وفنزويلا) ونرى أن حتى المشروع الأوروبي دخل في مرحلة التلاشي الذي هو ليس إلا "الشطر الأوروبي من المشروع الأمريكي". وعلى سبيل المثال، الدستور الأوروبي هو مشروع أوروبا التي تستقر على اختيارها المزدوج الليبرالي الجديد والأطلسي، بالإضافة إلى بلدان الجنوب (مجموعة الـ 57 ودول عدم الانحياز)، التي كانت تطمَـح أثناء فترة باندونغ (1955-1975) لأن تواجِـه الغرب في جبهة مشتركة، تخلّـت عن مشروعها.
إذا فالنفوذ العالمي موزّع ومشتّـت ويورد هاس هنا قائمة ببعض الدول الإقليمية المهمة مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي والمكسيك وفنزويلا في أميركا اللاتينية ونيجيريا وجنوب أفريقيا في إفريقيا ومصر وإيران وإسرائيل والسعودية في الشرق الأوسط وباكستان في جنوب آسيا واستراليا وإندونيسيا وجنوب كوريا في شرق آسيا. وتعد مجموعة ال “20” أبرز الأمثلة على ذلك, الأمر الذي يؤكد أن العالم يمر بحالة اللاقطبية وهي مرحلة خطرة ودقيقية لرسم الحدود الجديدة وتوزيع النفوذ العالمي بين الأقطاب الصاعدة والمنكفئة ونرى هذه الحالة من خلال الأزمة السورية حيث يسير العالم على شفير هاوية تقوم بعدها القوى الدولية المنتصرة برسم الخريطة الجيوسياسية و الجيواقتصادية الجديدة عالمياً و تنهي حالة اللاقطبية.
وحسب رأي الدكتور عماد الشعيبي: على اعتبار أن الحرب صعبة بين الكبار أو شبه مستحيلة بسبب التسلح النووي، فإن التوتير أو الحروب بالوكالة سرعان ما تصبح الطرق البديلة عن صراع تحصين (الذات) الدولية حيث إن استمرار هذه الوضعية التي تنافس الحرب الباردة شراسة وتغايرها أدواتٍ لفترة طويلة إلى أن تستعد دول الصعود (الشنغهايية) لتأخذ مكاناً لها. وهذا يعني أن مناطق الصراع ستكون مهيأة لاستنزاف بعيد المدى (كوريا – إيران – سورية). وهنالك خيارات إعادة توزيع مناطق النفوذ بالتراضي على طريقة يالطا جديدة. وهذا مستبعد حالياً وإن كان غير نهائي لأن (الخيار صفر) ليس من العمل السياسي بشيء، وعادة ما يكون ثمة قاعدة تقول بأن هزيمة دولة عظمى ممكنة ولكن انكسارها غير مستحسن وأن حفظ ماء وجهها هو الطريق الأمثل نحو (مساكنة) بالتراضي بين دول الماضي العظمى ودول الحاضر، وهذا ما حدث مع فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
هناك من يرى أن العالم متجه نحو صيغة من "التعددية القطبية" تنخفض بحسبها وبسببها، من جهة، مكانة وقوة الولايات المتحدة، وترتفع، من جهة أخرى، مكانة وقوة القوى الأخرى (كالاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والهند واليابان تحديداً). وبهذا تتقارب تأثيرات ونفوذ هذه القوى، لكن تفقد أية قوة واحدة منها ميزة الانفراد والقيادة على الأخريات.
وربما يمكن القول هنا: إن هذه هي النظرية الأكثر رواجاً في الوقت الحاضر في فهم وتصوير ما تؤول إليه العلاقات الدولية في المستقبل القصير الأمد مع اختلاف رأينا حول قوة الدور الأوربي وفق هذه النظرية حيث إن تخلي أمريكا عن مشروعها الأوربي الأطلسي والانتقال للعصر الأمريكي الباسيفيكي سيدخل روسيا والصين للتحكم بالقرار الأوربي وليس مشاركتهما, حيث نجد (نعوم تشومسكي) - المفكِّـر الأمريكي المعروف، وهو أحد أبرز المتنبّـئين بهذا التطوّر - ، وقد ألمح مِـراراً إلى أن النظام العالمي الجديد سينمو على ضِـفاف المحيط الهادي وسيقذف بأوروبا، التي قادت الحضارة الغربية على مدى القرون الخمسة الماضية إلى أعماق المحيط الأطلسي.
والتركيز الأشد هنا يكون على صعود الصين تحديداً ثم روسيا والهند واليابان, فالصعود المتواصل لهذه القوى إنما يحدث على حساب قوة وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة (التمدد والانزياح).
وهناك على العموم تنويعات متفاوتة لرؤية التعددية القطبية؛ بعضها يرى هذه القطبية في وارد الحدوث لكن مع الإبقاء على تميز خاص للولايات المتحدة ودورها وقوتها (كما يرى مثلاً المنظِّر الأميركي المعروف جوزيف س. ناي في كتابه "مفارقة القوة الأميركية: لماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالم أن تتحكم به وحدها؟"). وهناك من يرى تحقق تعددية قطبية تفقد فيها الولايات المتحدة أي تميز قيادي خاص بها. وأكثر وجهات النظر شيوعاً وتنظيراً لهذه الفكرة هي تلك التي تقول" [إن العالم قد دخل قرن "العصر الآسيوي"] حيث السيطرة القيادية ستكون للقوى الآسيوية: الصين واليابان والهند، على حساب القوى الغربية التي دخلت سيطرتها مرحلة الأفول.
وهنالك مقولة: ((القطبية الإقليمية الجديدة)) التي تعني أن العالم سوف ينقسم إلى عدة أقاليم، وهذه الأقاليم سوف تكون متعددة الأقطاب تدار من قبل مجموعة أطراف تشترك في تكوين معالم الأقاليم، وأن بروز عدد متزايد من اللاعبين المؤثِّرين - إقليميًّا ودوليًا - مثل الصّين، والهند، واليابان، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، ووراءهم مباشرة قوى إقليمية من الدرجة الثانية، كتركيا، وإيران، وباكستان، وإسرائيل، والأرجنتين.
ولكن هذه النظرية ضعيفة حيث إنه دائما في النهاية تتركز قوة المحاور التي يجب على دول الدرجة الثانية أن تنضوي تحتها بقيادة قطبية من اللاعبين الدوليين الكبار فلا تصبح إقليمية حيث مصالح الأقطاب الكبار ممكن تكون في مجال إقليمي آخر بالإضافة إلى أن دولة مثل الصين لها مصالح في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومضطرة للخروج من الحالة الإقليمية.

تعليق عبر الفيس بوك