عبيدلي العبيدلي
ولكي نفهم دور تلك الأسباب التي سردناها في الحلقة الأولى، ينبغي عدم تجزئتها، واختيار البعض منها وإهمال الآخر. فهي في مجملها، تكون المنظومة المتكاملة التي تفسر قصور مكونات العمل السياسي عن الوصول إلى تشكيل الكتلة الوطنية. فتغليب عنصر من عناصر تلك المنظومة على سواه، بشكل مبتسر، وغير منطقي، ولا يستجيب لحاجة ملحة ملموسة، من شأنه تدمير تلك المنظومة، وسلبها حيوية القدرة على الحياة، ومن ثم التأثير في حركة المجتمع، وقول كلمتها التي تترك بصماتها على مسيرته على طريق التأسيس لكتلة وطنية رائدة.
ولا يعدو هذا الفهم حدود الخطوة الأولى التي ينبغي أن تعقبها الخطوات العملية الضرورية التي تعالج تلك الأسباب، وتقضي على الظروف التي ولدتها، من أجل الوصول إلى المعادلة الصحيحة التي توصل المجتمع إلى الهدف الاستراتيجي وهو تشكيل الكتلة الوطنية القادرة على انتشال المجتمع البحريني من أزمته الخانقة الممسكة بتلابيبه.
وفي هذا الاتجاه، يمكن التوقف عند أهم المداخل المجدية التي بوسعها تحقيق ذلك من خلال التدابير التالية:
- النبذ الاستراتيجي، النابع من قناعة راسخة غير مموهة، لأي شكل من أشكال المنطلقات التجزيئية لطاقات المجتمع، والقبول بعدم جدواها، حتى وإن حمل هذا القبول بعض الآلام المبرحة التي لا تستغني عنها ولادة الحالة الجديدة التي نتحدث عنها. يجري ذلك بغض النظر عن الخلفيات التي يرفض البعض مغادرة منصاتها، ويبرر البعض الآخر جدوى الخضوع لقوانينها، فئوية كانت تلك المنطلقات أم طائفية أم قبلية. ففي أحضان تلك المنطلقات التجزيئية المدمرة تنمو الفيروسات الخبيثة التي تهاجم خلايا جسد الكتلة الوطنية، وتنخر عظام مشروعاتها. وبالتالي فمن رابع المستحيلات أن ترى الكتلة الوطنية المطلوبة النور طالما فشل الداعون لها نفض غبار تلك الفيروسات من فوق عقولهم.
- الاعتراف الصادق للنفس بمسؤولية مكونات العمل السياسي البحريني عما وصلنا إليه، وفي مقدمته تدهور مشروعات الكتلة الوطنية، وانعكاسات ذلك على برامج عمل تلك المكونات، التي قبع مشروع التأسيس لكتلة وطنية فاعلة في أسفل درجات أولويات سلم عملها الوطني. فلو كانت هناك مساع جادة وصادقة، حتى على أرضية الأساليب التقليدية، لكان مشروع تشكيل الكتلة الوطنية في وضع أفضل مما هو عليه اليوم.
- التخلي عن المداخل التقليدية التي كانت تؤسس لانبثاق مثل تلك الكتلة، والتي تقوم أساسا على دعوة تطلقها مجموعة من الأفراد، أو حتى مجموعة من القوى السياسية، فعلى امتداد السنوات الأخيرة، أثبت هذا الأسلوب عدم جدواه، والدليل عدم تشكل تلك الكتلة. المقصود هنا البحث عن مداخل جديدة تبدأ من "التفكير خارج الصندوق"، بدلا من سجن عقولنا بين جدرانه الأربعة. فأمام رياح التغيير التي تطلقها عواصف ثورة الاتصالات والمعلومات تتهاوى أعمدة تلك المداخل الصدئة التي أكل عليها الدهر وشرب. فإن لم يقتنع الداعون لمشروعات الكتلة الوطنية بفشل دعواتهم بعد هذه السنوات الطويلة، فالمجتمع البحريني أمام معضلة حقيقة تستدعي التوقف الجاد أمامها.
- الكف عن الاستمرار في تبني منطلقات الشكل التقليدي لبناء هذه الكتلة، وسجن الذات في الخطوات المتعارف عليها في هذا الصدد. فلربما كانت الصيغ التنظيمية الحزبية، بمختلف أشكالها، هي الهياكل الأكثر مناسبة لعصور الثورات البرجوازية التي دكت قلاع الإقطاع، لكنها اليوم، أي الصيغ الحزبية، هي الأخرى تتهاوى أمام ضربات الاقتصاد المعرفي وأجياله الصاعدة التي أصبحوا يعرفون بالميليانز (Millennials). هذا الجيل، الذي مهما قيل عنه، يبقى في نهاية المطاف المعين الذي ستغرف منه الكتلة الوطنية الجديدة عند تشكل كوادرها الأساسية، وقياداتها المستقبلية.
تأسيسا على كل ذلك يمكن الإشارة إلى الخطوات العملية، التي ربما تكون مجدية، التالية:
- قراءة علمية صحيحة للمرحلة التاريخية التي تمر بها المنطقةـ تشخص موازين القوى على نحو صحيح، وتتخلى عن مقولة أن الواقع السياسي البحريني محكوم "بشكل مطلق" مع تلك الموازين الإقليمية. لا بد من الاقتناع بوجود هامش، مهما كان هذا الهامش ضيقا، يسمح بالحركة، ويتيح الفرصة لمن يريد أن يعمل ويكون مؤثرا أن يستفيد منه، ويعمل على توسيع مساحته. هنا يقتضي الأمر الموازنة الدقيقة بين طموحات التوسيع والظروف المناوئة لها، كي تم العملية دون تضحيات باهظة مصدرها ما يعرف بسلوك الطفولة السياسية.
- تُخلي القيادات الهرمة مقاعد المناصب التي تبوأتها لما يزيد على ثلاثة عقود، كي تفسح المجال أمام القيادات الشابة لأخذ حقها التاريخي الطبيعي في ممارسة العمل السياسي، بما في ذلك تشكيل الكتلة الوطنية على النحو الذي تراه هي مناسبا، والذي لن يكون، بطبيعة الحال، متطابقا في أساليبه مع تلك التي مارستها تلك القيادات. ليس المقصود هنا الانتقال الميكانيكي، الذي ربما يكون قسريا ومفتعلا، وإنما ذلك التحول الانسيابي المرن القادر على نقل المسؤوليات، دون التفريط في التجارب التي أصبحت بحوزة تلك القيادات الهرمة، التي لا بد وأن يستفيد منها هذا الجيل القيادي الصاعد.
- الموازنة الدقيقة بين دور زوايا الكتلة الوطنية الثلاث عند تشكيل تلك الكتلة، ووضع برنامج عملها: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. فتغليب أي منها بشكل مفتعل على الآخر، لا بد وأن يقود إلى نهايات لا نريد للكتلة الوطنية، التي نتحدث عنها، أن تصل لها. هذا التوازن المطلوب، ليس له مدخل آخر سوى العمل الجاد الرصين والصادق في آن لإعادة الحياة إلى جسد منظمات العمل المدني، التي بدون مشاركتها الفعلية ستكون تلك الكتلة عرجاء إن لم تكن مشلولة تماما.
تلك كانت خطوطا عريضة، لا تدعي رقيها إلى برنامج عمل، لكن كما يقال رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، والوصول إلى نهاية الرحلة يتطلب أن تكون هذه الخطوة راسخة أقدامها، يسيرها عقل مدبر ناضج وحاد الذكاء في آن، كي لا تتيه برامج الكتلة الوطنية في دهاليز هزالة عضلات أقدام تلك الخطوات أو سذاجة ذلك العقل.