إدارة الأزمات.. الأسباب والعناصر والمقومات

د. عيسى الصوافي
دكتوراه في إدارة الأزمات


عندما تقوم أحداث من شأنها إلحاق الضرر إما بالمؤسسات وينتاب اشتغالها خلل يصعب تجنبه أو أضرار تمس الأفراد أو الجماعات فتسود حالة الفوضى والهلع بما يسير بالبلاد في طريق الانهيار، نقول حينها أن وضع الأزمة قد قام وأن أسبابها قد توفرت.
في الواقع، لتصنيف وضع معين في خانة حالة الأزمات من الضروري أن تتوافر بعض العناصر الأساسية منها.
أولا - عنصر المفاجأة: بمعنى الغياب الكامل للتوقع لدى صانعي القرار، بحيث لا يكون حدوث الواقعة وارداً في الذهن بالمرة، كما حصل ذلك مع الغواصة النووية الروسية التي عرفت انفجاراً فخلق وضع الأزمة لدى حكومة وشعب بلدها الأصلي روسيا وأيضاً البلاد المحاذية لشواطىء من مكان الواقعة (...).
كما يمكن تكون المفاجأة في توقيت الأزمة التي أتت بغتة وعلى نحو يؤثر على أشغال الاستعداد والترتيبات العملية تأثرا واضحاً. كثوران بركان ريكيافيك بآيسلاندا الذي غطى سماء المنطقة وأجبر شركات الطيران على إلغاء كافة الرحلات المبرمجة بمجموع الحيز المكاني الذي وصل إليه دخان البركان، وكان جد متسع. ويظهر عنصر المفاجأة كذلك من جراء ضخامة آثار الحدث الذي قد يفوق بكثير ما كان متوقعا له، وحصل هذا في حالة فيضانات باكستان والصين وشرق أوروبا (...).
ثانيا - التهديد الوشيك: التيقن بأن أخطاراً جمة على وشك الوقوع إن لم نقل مسَّت المصالح الحيوية للبلد بما يعرض حالة وواقع ومستقبل البلاد للتهديد بأضرار كبرى. هذا التهديد قد يكون خارجياً وقد يكون داخلياً، ويكون الوقت المتاح أمام متخذ القرار محدوداً لكي يتخذ القرار الصائب لمواجهة الأزمة وتداعياتها.
ثالثا - فداحة المخلفات: ويمكن تبينها من خلال:
(1)     عدد الضحايا من المواطنين قتلى أو مشردين بدون مأوى أو مفقودين.
(2)     وقوع خسائر وأضرار هائلة تفوق قدرات البلد أو المنطقة أو الإقليم أي إدارة أو دولة.
(3)     المَسّ بسمعة الدولة ووزنها نتيجة التخبط وعدم التمكن من مواجهة انزلاقات هذه الأزمات.
(4)     انعدام التأهب: وينجم عادة عن قلّة الإمكانيات المرصودة على صعيد المؤسسات، أو الأقاليم، أو على النطاق الوطني وكذلك عن عدم توافق قدرات التأهب مع استثنائية الوضع.
ويمكننا القول بأنّ هذه الحالة من التدني للاستعداد أو لمواجهة الأزمة تظهر بوضوح عندما لا تكون لدى الدولة (...)
(أ‌)    الخبرة الكافية لمعالجة مواقف الأزمة ومتطلباتها وكمثال على ذلك وقوع الزلازل التي تفضح غياب ضوابط البناء التي تقاوم الاهتزازات نموذج زلزال إيران وبعده باكستان، ثم مصر أو معايير حماية توزيع المواطنين أمام حالات الاعتداءات المسلحة.
(ب‌)    تغير ملابسات ومؤشرات الأزمة عما تعودت الدولة على مواجهته وهيأت نفسها لصده، كما حصل في فرنسا عندما ارتفعت درجة الحرارة وعجزت مراكز الاستقبال عن استيعاب الأعداد الكبيرة من العجزة فكانت كثرة الوفيات ملفتة للاستغراب. وأيضا حالة السقوط الاستثنائي للثلوج الذي لم تفد معه ما كان متوافرا من تجهيزات معدة أصلاً لمستوى أقل من ذلك، الأمر الذي يخلق بالضرورة تمس الأقاليم المتضررة ولا تفيد معها التجهيزات المتوافرة شيئاً.
وبناء على ما سبق فإن التداعيات الفادحة الممتدة إلى الدولة في أبعادها الأمنية والاقتصادية والسياسية والإجتماعية.. وغيرها تكون على:
    المدى القصير وذلك من جراء الأضرار الآنية والهائلة التي تحدث، كما هو الحال عند قتل السياح في حافلتهم بالأقصر بمصر أو بشرم الشيخ أو إسقاط الطائرة الروسية والمنطلقة من مصر، وما كان لذلك من انعكاس كبير على قدوم السياح وانهيار قطاع السياحة.
    المدى المتوسط، وتقدم لنا صورة على ذلك، التوترات الاجتماعية وقيام المظاهرات في المدن نتيجة أحداث هيأت تدريجياً لاندلاع الأزمات. أزمة النظام المصري الذي حصل في ورطة نتيجة مقتل الشاب خالد سعيد بمخفر الشرطة المصرية وما تلا ذلك من مظاهرات تزايدت وتيرتها تدريجياً إلى أن عصفت بنظام الرئيس المصري حسني مبارك.
    المدى الطويل حيث تمتد المضاعفات إلى سمعة الدولة ووزنها وتصل إلى المسّ بمستوى الدخل القومي ووزن العملة وغيرها. ومن بين الأنشطة الإرهابية التي كانت لها هذه السمة ما قامت به جماعة بوكوحرام بنيجيريا التي ساعدت على إذكاء توتر اجتماعي مسّت آثاره الدول المجاورة واستدعت تدخل قوة افريقية لإنقاذ دولة نيجيريا من السقوط. كذلك الأمر عندما أصبحت دولة مالي في طريقها إلى الانهيار أمام المجموعات المسلحة القادمة من الشمال والمدججة بالأسلحة كمجموعة "أزواد" وغيرها، مما استدعى قدوم قوات دولية من أوروبا ومن فرنسا تحديداً. وأخيراً أمام انخفاض الدخل القومي للجزائر جراء هبوط أسعار البترول فإن التوتر الإجتماعي ارتفع متواصلاً مصحوباً بأصوات التنديد من المعارضة السياسية ولا يسير منحناه نحو التراجع.

    أسباب قيام الأزمات:
ولكن إذا ما تبينا العناصر التي يلزم توافرها لتصنيف الواقعة في خانة الأزمات، فما هي أسباب هذه الحالات الإستثنائية في حياة التنظيمات والدول. في الواقع الأزمات لا تقوم من العدم إذ تكون هناك إرهاصات تخفي وراءها مجموعة هائلة من التبعات والمضاعفات تنتشر عادة بوصول صخرة الأخطار الضخمة التي تفتح لها الإخلالات في الرؤى وتقييم الوقائع الطريق إلى الظهور والتزايد. ويمكن إيجاز أهم هذه الأسباب في:
(1)    سوء الإدراك: ويتجلى في حصول مقاربة غير مرئية وتبني تقييم مجافي للصواب ينتج عن هذا قرارات غير سليمة تسفر بدورها عن نتائج وخيمة. ذلك أن تتابع الإجراءات الخائبة تسفر عن تهييج لمضاعفات الأزمة (..)، وما حصل في تونس من انطلاق شرارة المظاهرات احتجاجاً على ردود فعل النظام القمعية سوى صورة عن سوء الإدراك للتفاعلات داخل البلاد. ذلك أن اتساع رقعة الاحتجاجات من بلدة "سيدي بوزيد" إلى العاصمة وكافة أرجاء التراب التونسي تقدم لنا صورة عن سوء تقييم الوضع من طرف صانع القرار الذي أصبح في آخر المطاف يقول: إنه فهم ما يدور وهو الذي لم يكن ليغادر البلاد لو كان يفهم من البداية طبيعة الأزمة.

(2)    القصور المعيب: وهو يعكس الرؤية التي يتميز بها متخذو القرار. فعادة ما تكون القرارات صادرة من مرجعية فكرية وتكوين يحدد مسار الرؤية. وعندما يزيغ التصور ولا ينفذ إلى حقيقة الحدث يؤدي إلى اندلاع الأزمات لما تحمله من أضرار جمة (...). وتكون وراء حصول هذا التصوّر المعيب إما طبيعة متخذ القرار الذي له نسق فكري يحدد مواقفه ويرجح نحو اتجاه دون آخر الأمر الذي يخلق الأزمة غير المتوقعة عندما يسير في الاختيار الخطأ. وقد ينجم التصوّر  المعيب من جراء الاعتماد على معطيات أصلاً هي خاطئة أو غامضة وغير واضحة، ومثال ذلك "مواقف الأمين العام للأمم المتحدة المتأرجحة بين وضع التحالف العربي في خانة الدولة التي تستغل الأطفال في الحرب اليمنية ثم تراجعه عن ذلك عندما تبين أن ما اعتمد على تقريره من معلومات خاطئة وموجهة عمدا هي السبب".

(3)    التهور والتسرع: وهما أمران يقفان خلف القرارات الخاطئة والتي غالباً ما تؤدي إلى حصاد الخسائر الثقيلة. وبدون جدال، هاتان الصفتان تظهران بصورة تلقائية نتيجة الإفراط في الاعتداد بالنفس والتقليل من شأن الطرف الآخر أو تحقيره أو تبسيط قيمة المشكلة أو الأزمة وتبخيسها، ونموذج غزو صدام حينها للكويت أكبر مثال على هذا حيث جرَّ الأهوال على الشعب العراقي وعلى شعوب المنطقة حتى وقتنا هذا.

(4)    الإشاعات المغرضة: ويقصد بها ترويج المعلومات المغلوطة عمداً قصد إثارة القلاقل وتغذية حالات التوتر في (بلد ما). وقد تسير إلى تحقيق النتائج الهدامة إذا تمت إطلاقها وتوظيفها في المكان المعين والزمن المحدد فتكون أهدافها في تكريس عدم الاستقرار أقرب إلى التحقيق.

(5)    تضارب الرؤى: وتظهر هذه الحالات عندما تختلف الطموحات والأساليب لدى منفذي القرار في (بلد ما)، فتتعارض القرارات وتتعدد التوجيهات وتنشأ الأزمات في الكيانات المعنية. ومواقف البنتاجون الأمريكي المتضاربة مع مواقف وزارة الخارجية الأمريكية والإدارة في البيت الأبيض تجاه الأزمات، والمواقف الحالية في مختلف بقاع العالم أكبر نموذج لتعدد التوجهات واختلاف الأساليب.

(6)    الأزمات المخططة: وهي عبارة عن قرارات ترجع إلى خلق أزمات بالمناطق المختلفة تكون وراءها أهداف خفية وغير معلنة، فتعاني البلدان من أزمات لا تعلم أي طريق تسلكه لمواجهتها. وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الحالية المتبنية لما سمته بنهج الفوضى الخلاقة تقدم نموذجاً واضحاً لهذه السياسة وتطبيقاتها المتخفية في العالم العربي، سواء في العراق أو الدول العربية بالمنطقة. وهناك كذلك الموقف الأمريكي من الثورة السورية الذي شجعها في العلن وتآمر عليها في الخفاء مع شركاء الأزمة، حيث شكَّل أكبر دليل على التخطيط الدفين الذي دفع الشعب السوري ثمنه.

تعليق عبر الفيس بوك