المناهج الدراسية الوطنية بين النقد والهدام


سلطان بن خميس الخروصي
sultankamis@gmail.com
صِناعةُ الأجيالِ تُبنَى وِفق منظومة وطنية منهجية وعلمية مدروسة ومسؤولة، فلم يستطع أدولف هتلر – كما يحكي في يومياته- أن يُرسِّخ الفكر القومي والإبداع الصناعي العسكري لألمانيا لتكون شبح العالم في حقبة من الزمن إلا حينما جذَّر الولاء الوطني والفكر النازي في أمته عبر المناهج الدراسية الظاهرة منها والخفية؛ لذا فلا عجب أن يتسمَّر ذلك الفكر حتى اللحظة لدى شريحة كبيرة من الألمان الجُدد، كما أن اليابان التي أعطت العالم درسا في التعلُّم من خطأ الكبرياء والتعالي والذي انتابها إِبَّان الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) دفعها ذلك الجنون إلى قصف قاعدة "هيربل" الأمريكية فكان بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر البلاد وكان ذلك إيذاناً صارخاً لمأساة قادمة تجسَّدت في كارثة القنبلتين النوويتين وما تبعهما من انسحابات وخيمة على مختلف الأصعدة الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية لتتجرَّع اليابان ويلاتها حتى الساعة، إلا أنها استطاعت قبل الهزيمة وبعدها أن تغرس في نفوس النشء مبدأ التعلّم من الخطأ والذي كان بمثابة همزة قطع  بين قدسيّة الولاء الوطني واللامبالاة لنجد اليابان اليوم سيّدة العالم بلا مُنازع في أغلب المحافل الدولية وعلى رأسها القطاع الاقتصادي والابتكاري.
وفي ديننا الحنيف صدح النّبي الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا بالقول "الدين النصيحة" كما أُثر عنه القول: "كُل ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون" وفي المثل الدارج "انصحني ولا تفضحني" كل ذلك يُنبئ بعظمة النُصح إنسانياً وإسلامياً، لكن "غلطة الشَّاطر بألف" فحينما يُخطئ من لا يجب أن يكون في موقع الخطأ ولا يُبَرَر له ذلك فإن الأمر يتطلب الوقوف أمامه بحزمٍ ومسؤولية، مع ضرورة أن يُغلَّف ذلك التوبيخ وتلك المُساءلة بثقافة البناء والتطوير حتى تتحقق الغاية المُثلى من ذلك وهي "الصالح العام".
ولقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة من الشهر الجاري جدلاً حول ما  يتصل بالمناهج الدراسية المُدرجة ضمن قوائم وزارة التربية والتعليم في المدارس الحكومية – والسعي لتطبيق نظام كامبردج علاوة على التغيير الكلي لبعض المناهج، إضافة إلى المناهج المُصرَّحة للمدارس الخاصة بشقيها الأحادية والثنائية اللغة والمدارس العالمية والدولية. وكان هناك انتقادات من قبل الجمهور العماني والمتابعين للشأن التربوي من أكاديميين ومعلمين وغيرهم، وتم إسقاط ذلك الاستياء على المجتمع. ومن الملاحظ أن جُلَّ- إن لم نقل كُلَّ- تلك الانتقادات كانت تُوجِّه انتقادا لوزارة التربية والتعليم بصورة تجعلها في خانة عدم الشعور بقيمة المجتمع وأن أبناءهم وكأنهم فئران تجارب! بل تخطى الأمر إلى الخوض في مسارات ما أنزل بها من سلطان ليصل بعد حين إلى نسف كل إنتاج أو تطوير قامت به الوزارة في عهدها الراهن، ومن الملاحظ أن تلك "الحَكوَات" كانت تَلقى رواجاً لمن يتصيَّد في الماء العكر وكأنَّها وجبة عشاء دسمة على طبق من ذهب.
ربما من يتسلَّل بين جنبات كلماتي السالفة يستبصرُ أنني في مقام المُدافع عن الوزارة ولسانُ الحال "فدارِهم ما دُمت في دارِهم.. وأَرضِهم ما دُمت في أرضِهم"، والواقع عكس ذلك فنحن كمنتسبين لهذه المؤسسة العظيمة من معلمين وأكاديميين ومختصين بالحقل التربوي، أول المُنتقدين لعدد من التصرفات التي تقوم بها الوزارة؛ إذ هي خط الدفاع الأول للوطن باعتبار أن بناء العقول أعسرُ من بناء الأبدان.
لكن وفي الزاوية الأخرى ليس عيباً على مؤسسة عملاقة بحجم وزارة التربية والتعليم وهي تحاول أن تُجاري الجودة العالمية في التعليم ضمن إطار مشروع المراجعة الشاملة للمنظومة التعليمية في السلطنة أن تقع في بعض الهفوات والأخطاء- التي اعترفت بها في بيان رسمي-، لكن المؤسف جدا أن تتحول مثل هذه الأخطاء إلى قضية رأي عام وتُثار حولها الكثير من الأقاويل التي تقدح في إنجازات الوزارة منذ العام 2011 وحتى اللحظة. فليس عيبًا أن نُطالب وزارة التربية والتعليم بتجويد المناهج وتطوير دوائر المديريات وإعطائها صلاحيات مستقلة؛ فنحن نتطلع إلى خلق جيل مُتضلِّع بالمواطنة والمسؤولية والإنتاج والإبداع، لكن بالمقابل ليس من العدالة أن نبخس كل الإنجازات والرؤى والجهود التي بُذلت والتي وضعت لها أهداف وخطط مستقبلية وضُخَّت عليها ملايين الريالات في سبيل تطوير منظومة التعليم لدوافع شخصية أو لاتجاهات سلبية مُفرطة أو في سبيل النقد من أجل النقد ليس إلا، بل من المَعيب أن تُعمَّم بعض الهفوات والأخطاء التي تقع بها وزارة التربية والتعليم على حساب الوطن والشعب كما تابعنا ذلك بحرقة في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. كُلنا على يقين وثقة تامة بأن بعض الأخطاء وبالأخص تلك التي تتصل بالهوية والخصوصية العمانية هي محل اهتمام مباشر من الوزارة، فكان جدير أن تُقدَّم عريضة اعتراض أو نصائح منهجية يمكن أن تتطور إلى مطالب ومساءلة حينما تتجاهل الوزارة ذلك.
علينا أن نكون سواسية في كفِّ المسؤولية من موظفين في الوزارة، أو أكاديميين وباحثين، أو معلمين، أو أولياء أمور لخدمة البيت التربوي العماني بصورة تجعله على قدرٍ من الإنجاز والابتكار التعليمي بعيدا عن التصحّر في النقد والتطوير، إذ إنَّ التعليم مسؤولية الجميع لأننا نبني جيلاً ذا حديَّن بتصرفاتنا فإما أن يكون سنداً للوطن أو عالة عليه ولنتذكر أننا اليوم نقدم مناهج بعقولٍ عمانية وعُصارة خبرات وتجارب وطنية، في وقتٍ تعجُّ دولاً عربية بمناهج مستوردة لا تحمل من قيمتها إلا الاسم.