هارِبةٌ منّي ومن طفولتي (نصٌّ مفتوح)

نيران طرابلسي – أريانة – تونس


(1)
فيما يستعد الناس لنحر الأضاحي، يجلس أبي في الصالون كعادته يدخن مالا يحصى من السجائر ويشتم البلد، عاداته وتقاليده وأسسه ونواميسه، مرة يسخر من جارنا كيف يداعب خروفه.. وكيف يزينه بأشرطة ملوّنة، ومرةً يقلّد حركاته وهو يمسك به من رأسه ويسحبه من بيته إلى أخر الشارع لأجل أن يرى الناس أنه ميسور الحال، متباهيا بخروفه الذي يشهد له بالثراء، وتارةً يتأسف على أبناء جارتنا الأرملة، التي لا تختلف عنا كثيرا، لا تخرج من بيتها في مثل هذه المنسابات، تكتفي بمعانقة أطفالها الثلاثة لمدة تقارب الأسبوعين، أسبوع قبل العيد وأسبوع بعده، خوفا على مشاعر أبنائها، فيحدث مشهد الجار وهو يداعب خروفه خدشا في ذاكرة أطفالها فيكبر حاقدا ناقما..  أما أمي، وككلّ نساء جيلها، لا تملُّ ولا تتعب أبدا، تظلّ عند رأس أبي.. تكرّر الكلمات نفسها منذ ما يزيد عن ثلاثة وعشرين سنة .. " آش بينا، أش ناقصين عالعباد، زايدين علينا حاجة هوما يشريو كبش واحنا لا"..  أمي تعرف أنّ أبي سيذهب صباح الغد إلى صلاة العيد، وسيعود باكرا كعادته ليجلس في الحديقة يراقب السماء في صمت، وأنّ كلّ هذا الإلحاد الذي في صوته مجرّد حجة يهاجمها بها كلّ عيد، لكي لا يبذر ماله في أشياء يرى أنها تافهة.. أمي تعرف أيضا أنه قد لا يذهب غدا للصلاة، وقد يصحو متأخرا، وقد لا يصحو إلا بعد انتهاء العيد.. لكنّها تصرّ على إعادة كلّ شيء، وكأنها تخاف أن تخسر هذه التفاصيل المثيرة للشفقة، والتي تتكرّر كلّ عيد، أو ربما هي مازلت تحاول أن تقنعه بشراء الخروف، ولم تفقد الأمل بعد.. حين يشتدّ الشجار بينهما ويطير التلفاز في لحظة غضب وتسقط الخزانة دون سابق إنذار، وحين تصبح الأرضيّة بلورا مهشما، تقف أختي صارخة لتهدئة الوضع غير عابئة بالكلمات البذيئة التي يصدرها عقلها ولا بكميّة الغضب المتسربة في دمها، تشتم الأعياد، والجيران أيضا، ولا تنس كذلك أن تشتم الجارة الأرملة وأبنائها.. يخرج أبي من البيت بعد ان تأكد أنه لم يعدّ هناك شيء صالح للتهشيم، تعانق أمي أختي ببراءة ساذجة دون أن تنسى ايضا أن تقول: "آش عملت انا؟ ما عملت شي، بوكم وتعرفوه" .. تترك ذراع أختي، لتجلس وسط تلك الفوضى تسرد لنا أشياء مضحكة، علّها تنسينا ما حدث، تفعل ذلك بابتسامة مؤلمة وحزينة جدا.. وعوض أن نضحك، نبكي بصوت أعلى من صيحات خرفان الحي.. فإن كان الفرح يعني أن يسيل دم، فأنا أول من سيفعل ذلك، وإن كان الفرح يعني أن نغرق في برك من الدم، فأنا أول من يفعل ذلك، وإن كان الفرح يعني أن نقتل أحدهم فأنا أول من يفعل ذلك أيضا ..  منذ ثلاثة وعشرين سنة لم أتحرك من ذلك المقعد في أخر الصالون، ولم أتجرأ يوما على إبداء أي ردة فعل، أراقب في هدوء وصمت كلّ شيء.. دون بكاء أو صراخ أو غضب، ودون أي شعور يدلّ على أني حيّة، حتى يظنّ المرء حين يراني في ذلك الوضع، أنني صورة في إطار يتنفس..
في صباح العيد، وبعد أن أصلحت أمي ما أفسده أبي، وبعد أن تأكدت أن محاولة هذه السنة أيضا لم تجدي نفعا، وبعد أن عاد أبي من صلاة العيد، نجلس جميعا في الحديقة نشتمّ رائحة اللحم المشويّ ونشاهد القطط وهي تتشاجر حول قطعة لحم صغيرة سرقها أحدهم من بيت أحد الجيران.. ودون أن يتشجع أحدنا بقول شيء.. نتسلّل الواحد تلو الأخر إلى غرفنا، فيما يظلّ أبي يقرأ ما تيسّر من آيات القرآن وحيدا كما كان وسيظلّ دائما.. الأن وبعد ثلاثة وعشرين سنة أو يزيد قليلا، أفتح الباب لأدخل البيت.. تقع عينيّ في عيني الخروف، ودون أن أفكر افتح رباطه، وأترك الباب مفتوحا، ثم أدخل البيت خائفة أن لا يخرج وتضيع تلك التفاصيل الكئيبة وتلك العادة المحزنة التي أظنّ أني أدمنت جراحها.


(2)
حين فتح باب البيت، لم أستطع أن أمدّ يدي لأصافحه، ولم أستطع أن أتركه يقبّل وجنتيّ.. كان جسدي يرتعش، وأنا أمدّ له باقة الورد وقارورة النبيذ، فيما كان هو يبتسم و يدعوني للدخول.. لا أعرف كيف غاب عنّي فجأة لأجد نفسي في رواق ضيق، على جانبي الأيمن غرفتان مغلقتان وما يماثلهما على جانبي الأيسر، وفي نهاية الرواق غرفة واحدة، ومرآة صغيرة بجانب باب البيت .. رحت أنظر إلى وجهي، محاولة ترتيب شعري و تعديل أحمر الشفاه، وأنا أتساءل إلى أين كنت أنظر حين اختفى هكذا؟ من أي باب دخل؟ كيف يتركني عالقة هنا؟ في الحقيقة كان المنزل عاديا، فلا يوجد ما يشدك إليه، وهو ما فتح نافذة على هذه الأفكار التي تسلبني من الواقع، نحو تساؤلات عدة.. ما الذي يجعل رجلاً مثله يهتم بي؟ لم ألتق به سوى مرتين، هل كانتا كافيتين فعلا لجعله يعجب بي؟ كنت أحاول أن أسيطر على نفسي، لم أصادف يوما رجلا بمثل وسامته وذكائه، أنا التي تخاف الرجال القادرين على السيطرة علي، الذين يجعلونني أقع في حبهم، لطالما هربت منهم إليّ، لا أعرف كم من الوقت مضى وأنا أحدق في المرآة، وروحي غائبة كلّيا عن هذا العالم، حتى أني لم أسمع صوت خطواته وهو يقترب مني، فجأة أيقظني صوته فارتبكت فرائسي واضطربت خوالجي وأنا ألتفت إليه.
-    ماذا تفعلين هنا؟
-    لم أعرف من أي باب أدخل.
كان يجب أن أبقى متيقّظةً، مسيطرة على ذاتي ومشاعري .. أين الفراغ الذي كنت أشعر به منذ قليل وأنا أختار الورد؟ أين النصائح التي أمليتها على نفسي طوال الليلة الفارطة؟ كيف ضاعت سيطرتي الآن على كل شيء؟.. سأعمل على أن أكون تلقائية وعفوية في جميع تصرفاتي، هكذا سأكون مرتاحة أكثر، إنه مجرّد رجل كباقي الرجال.
دخلنا غرفةً في آخر الرواق، كانت دمى كثيرة مرميّة هنا وهناك، الستائر مدهشة وهي ترفل بالأزرق السماوي فتفتح لك مجال السفر البعيد، غرفة من دون تلفاز ولا مكتبة، طاولة صغيرة في الركن الأيسر عليها أوراق بيضاء، وطاولة صغيرة أخرى في الوسط حولها أريكتان بالأزرق الفيروزي، تكاد تكون الغرفة كلها فضاء من اللون الأزرق، فكنت عصفورا كسر أحد جناحيه، يحاول أن يسيطر على نفسه ويحلق بعيدا بعيدا..
جلس أمامي - وقبل أن يتناول سيجارته، قال بصوت خافت:
-    شكرا لأنك قبلت دعوتي هذه الليلة.
-    أتى بي الفضول، كنت أريد أن أعرف ماذا يريد مني رجل وسيم مثلك.
-    شكرا، لطالما كنت خائفا ألا تقبلي دعوتي.. فقد كنت أعتقد أنك تخافين دخول منازل الغرباء؟ ثم كيف تختارين الورد على ذوقك دون أن تسألي أي الأنواع أحب؟ أما النبيذ فكان عليك أن تعلمي أني لا أشربه..
كان هادئا جدا، وما كنت أجد الكلمات لأردّ عليه ، حدقت في الفراغ شاردة أبحث عن نفسي وعن الإجابات التي تزاحمت وارتبكت دون أن تجد مخرجا واضحا. رفع يديه ملوحا بهما في حركة دائريّة أمام عيني، ودون أن أنظر إلى عينيه اللّتيْن تُحرقان جسدي النحيل بلونهما الأزرق.
-    آسفة، أخذني التفكير.. أولا، لا شيء يجعلني أشعر بالخوف، فقد التقينا مرة بالمقهى ومرة في مكان عملي، وأنت وبيتك لا تبعثان الرعب فيّ، (كنت أكذب فقد كنت مرعوبة حقا). ثانيا، أنا أحب النبيذ والورد، واعتقدت أن رجلا مثلك لابد أن يحبهما..
اقترب منّي إلى أن أصبح في موضع يمكنني استشعار أنفاسه الحارة، لا أعرف كيف أغمضت عيني، فسمعته يقول:
-    أنا في حاجة إليك.
بقيت على تلك الحالة للحظات، أنتظر أن تلمس شفتاه شفتي، لكن لا شيء من ذلك حدث.. حين فتحت عيني لم أجده، ازدادت نبضات قلبي تسارعا أكثر وأكثر، كان قلبي بين يدي حين دخل مرة أخرى ليجدني مازلت مندهشة مذهولة، وقلبي يرتعش بين يدي.
-    ماذا تريد مني؟
-    أريدك أنت
-    لم أفهم
-    ألم يسبق أن قال لك رجل أريدك؟
-    بلى.. ولكن لماذا طلبت مني المجيء؟
-    لأن هناك أشياء لا نستطيع أن نفعلها في المقهى.
-    مثل ماذا؟
-    تعالي.. أريدك بشدّة، وأحتاجك أكثر، هات يدك.
رميْت قلبي تحت الطاولة، لأتخلص من هذا الشعور الجنوني تجاهه، كنت أتبعه ويده ممسكة بيدي، وفي داخلي صوت قوي «كوني أقوى.. كوني أقوى..» دخلنا الغرفة الأولى على الجانب الأيمن.. لا شيء في الغرفة يلفت الانتباه سوى الدمى المرميّة على الأرض.. واللون الأزرق الذي أظنّ أنه يحتلّ كل البيت، اقترب مني إلى أن بدأت أشعر بهزات قلبه.. وألتمس حرارة أنفاسه.. اقتربت شفتاه من أذنيّ وبصوت يكاد لا يسمع قال:
-    لا تخبري أحدا بكل هذا..
للحظة شعرت أني أكثر النساء حظا وأكثرهن سعادة لأنّني سأحظى برجلٍ مثله ولو لساعة واحدة، لم أكن أريد أن أعرف عنه شيئا.. كنت أريد أن ننغمس أكثر، أن نذهب أعمق وأعمق، كنت أوشك أن أضع يدي في شعره.. وأن أدخل فيه إلى الأبد.. لكنّي لا أعرف كيف ابتعد فجأة ثم قال:
-    اقتربي أرجوك..
حين التفت إليه، كانت الخزانة مفتوحة وبين يديه فتاة صغيرة أظن أنها لم تتجاوز الخامسة بعد.
-    إنكِ الوحيدة القادرة على شفائها، لم أستطع أن أخرجها من وحدتها، ولن يستطيع أحد سواك أن يفعل ذلك..
ركضت إلى الباب بكلّ ما أوتيت من قوّة وكلّما داهمني المشهد، ركضتُ أبعد وأبعد.. ومازلت أركض إلى الآن هاربة منّي ومن طفولتي..

تعليق عبر الفيس بوك