ما بين عالم الافتراضي والأرضي

د. الأرقم الجيلاني -  كلية العلوم التطبيقية - نزوى

 

كنت حديث عهد بتقنيات الهواتف الذكية حينما سألني أحدهم بقبول صداقته وانضمامي لمجموعة تواصل اجتماعي إنساني محددة الهدف والمرمى.. لكنني ترددت لبعض الوقت؛ بل لم أكن أرغب على الإطلاق، وتحفَّظت في بداية الاقتران بعدم النشاط! لا سيما كنت أتوقع أشياء بعينها سالبة جراء فطرة آدمية غير سويّة، بالفعل وقد حصل منها ما كان متوقعا حدوثه تماما وهى طبيعية هناك أوهنا في هذا العالم.. ولعل هذا ليس من باب التشاؤم أوهكذا كنت أنظر إليه، على الأقل من باب قراءة الواقع ومع تغيرات الزمان والشخوص وبتجرد الأشياء والمنطق لا العاطفة.. صحيح قد تقودنا أحلامنا أحيانا وأشواقنا في تجارب الماضي قريبة كانت أو بعيدة؛ فيتذوقها كل منا كيفما كان وحسب ما لديه من حوسبة المنهج والمسارات وحساسات التذوق تلك؛ وباختيارات إطاره ومرجعياته المتناقضة أو المتطورة دوما.. لكن أشواق الحاضر ها هنا في العالم الافتراضي كانت غير، فكأنها قوس قزح بألوانه الزاهية وسحره الجميل وأنت تحلق فيه دون خواص المكان وتثاقلها.
 ربما لا أعرف هذا العالم الافتراضي جيدا أو كل الشخوص، ولا أعرف حتى الكثير مما تحتويه بين طيّات صفحات دفتر الزمان ذاك أو المكان المادي تلك.. وما بين التَّو واللحظة ها قد حضر الجميع إلى الحفل كل بسمعه وبصره وفؤاده؛ فمن الحضور ممن كنت أعرفه سابقا أو تعرَّفت به للتو وهو يمد لنا مدا ويكرمنا بما فتح عليه الحكيم العليم ويفيض. ولكن! وآهة من لكنّ ! كل الذي حضر بين سمعنا وبصرنا ووفقا لنداءات وإضاءات تنبع من أجهزة هواتفنا المحمولة بألوانها وماركاتها وأسعارها المتنوعة ما بين الأحمر والأبيض والأسود أو الأسمر الغالب.. أعني تدافع ألوان الطيف الفكري الثقافي لا إشارة للعرقي هنا، حينما تأتي تلك الرسائل والإشارات وتطرق الباب، فكانت تعتمل في النفس وتحرك الأشواق وتدع الأرواح تنساب وتمضي تحلق بعيدا عن عالم الأرض القذر وواقع الحياة المرّ وخبث نفوس البشر الأشر.. نعم فكل منا يحمل معا طينا وروحا.. طينة تدفعه نحو الأرض وتثقله أو تحبسه في التراب، وروحا تنطلق به نحو العلا وتسمو به حينما يغيب برفقة من يحب في الأثير.. نعم حينما تأتي رسالة ما نفضُّها بعجالة فنسمع همسات من هنا وحوار من هناك إلى غير ذلك من مشاعر وتعابير؛ كنت أعلم يقينا أنها جميعها لعالم افتراضي ليس إلا! وحريص أن لا أعطيها غير حجمها ومساحتها المحدودة عندي؛ ولكن آنى وهيهات لي ذلك؟ فللصدق جاذبية وحضور وقد يتفوق أحيانا على إمكانيات الموجات المحدودة وتقنية معالجة تردداتها؛ فيشعل فتيل محرك به عطب أو ماكينة تعطلت وربما لعهود من الزمان! ذلك ربما بفعل صدأ وعوالم الطبيعة والرطوبة والتصحر وغيره من إحباطات وعثرات الحياة التي قد لا تحتمل ولا تتلطف بنا..
نعم يبدأ التفاعل الآدمي ويدفع به حنين الروح رويدا رويدا إلى قصص وماض ذكريات الجسد الترابي؛ ومن ثم ليؤرق هذا الإنسان العجول ويتجدد نشاطه فيشارك ويحاور ويجادل ويواسي ويغازل ويضاحك ويعاود بلا توقف وربما بلا تلطف إذ يجتر أغوار ماضٍ أو معاناة تجربة اندثرت.. فما الإنسان بلا ذاكرة وإطار مرجعي؟ كنت أحيانا أحسُّ ونحن إذ نحلق في هذا الأثير الافتراضي مع رسائل الكلمة والحوار والفن والحياة عامة.. أحسُّ ولكأننا على سرر متقابلين فقوة الروح طاغية لاسيما إن وجدت نفسك بلا أنيس وشريك؛ في لمحة بصر وفي يسر تمتطى سريعا رسالة ما أو إشارة فتغيب في وجودها تماما! وأحيانا تأتي أو تنداح حكايات من ذاك أو تلك فتعيد حينها مشهد هبوط الأرض الأول وقصصه؛ بل ورائحة التراب آنذاك وتلكم الشجرة، فاضحك أو يضحك منا الشيطان ذاك بخبثه ومكره وتكبره علينا ونحن إذ نحأول أن نهز الشجر بعنف ولهفة فتتساقط الثمار ونحن نجنيها فلا نستطيع أن نواري سوءة أنفسنا أو بعضنا حتى، وبكل أسف يقع ضحية البطل فينا؛ ويقوم ثم يقع مرة أخرى ، ثم يحاكي الغراب ولكأنه بعد لم يستفد من الدرس ويتعلم الأسماء كلها! فيدعي المعرفة أحيانا وما أوتي منها إلا قليلا.. وتكرر وتعاود التكرار هكذا مشاهد كوميديا الحياة التافهة القصيرة.
 وعجبي لآدم هذا حينما تجده أحيانا يلعب دوره - تماما وكمالا- كالممثل بدون نص حوار وسيناريو يخطو به على الطريق ليتلمس ممشاه يمنة و يُسرة؛ لكنه لا ينفك يكرر الحبكة فنجده يهبط إلى الأرض مرة أخرى فيقبض الثمن البخس ليغادر خشبة المسرح دون أن يدري نهاية القصة والحوار أو من وكيف وأين ومتي أكل التفاحة؟ ولماذا التهمها دون تذوقها حتى!؟ غير أنه بعجلة الشيطان يتسرب الزمن منه ويغادر مسرعا قبل أن يهضم المغزى والقصة حتى..
نعم لابد من وجود حبكة الصراع وهو أبدي منذ جماعة آدم وقد خلقه سبحانه البديع مع الإنسان وأخيه أو نفسه حتى أو الشيطان؛ وهو صراع دائم لا ينتهى إلا بصعود الروح إلى أعلى ورجوع الجسد إلى التراب، وهو سنة الخلق وميزة للحياة وقصتها وحبكتها وصخبها وضجيجها وشغفها وحلوها ومرها، إلى أن نمضى معا لحياة أخرى أرحب وأوسع بلا قلق وأرق وصراع، نعبر حيث هنالك يجتمع الماضي بالحاضر والمستقبل. نعم كل الماضي وبرموزه ووجهاته الفارسي أو الحبشي أو الأندلسي أو الهندي بشماله وغربه وجنوبه وشرقه. أمتطي الفكرة وأغيب في الوجود.
كنت أبحث عن الغرائب واللطائف في المشاعر والأحاسيس هنا بين فن الحياة. أحيانا أشاهد عثرات وإسقاطات ولا تمنع من التحليق والطيران فيسقط هذا أو ذاك ولكنها الرحلة ولم تنتهى بعد وعلى متنها بشر! ولابد من خطأ وصواب، وإلا لكُنا قد استبدلنا الحكيم بآخرين منذ زمن كانت الشجرة مسرحا والمسرح شجرةً. ولا طبعا وأبدا إن غادرنا من هاهنا أو استبدلنا مكان بآخر أو عنصر ومجموعة بأخريات أرضية ترابية أو افتراضية أثيرية كانت، لن نجدها البتّة بلا صراع واختلاف ألوان وتنوع فكر وفن وحديث. وإلا من منكم يمنحنا تأشيرة دخول لنمضي إلى عالم افتراضي أو أرضي يتخذ شعار: قصة فن لحياة بلا أخطاء وجراح تثقلها.. من منكم؟

تعليق عبر الفيس بوك