مهرجان العلوم

حاتم الطائي

مازلتُ مُقتنعاً بأنَّ التحديات الجِسَام التي كانت تواجِه أجيال القرن الماضي، أوجدتْ الجذوة التي انبثقتْ عنها مُفردات واقع اليوم، ومسارات مُستقبلنا ومستقبل أبنائنا.. فمَن كان يُدرك أن أناساً عاشوا زمن الصِّعاب ستكون لهم نهضة بهذا الألق والتفرُّد؟! لقد آمنوا بقدرتهم على الإبداع أيَّما إيمان، وترجَمُوا فكرة "الحاجة أم الاختراع" أنموذجًا ودرسًا وطنيًّا يُدرَّس اليوم.. أقول ذلك، وفي النفس شعور بالغبطة والانبهار بمشروعات وأفكار وتجارب واعدة في العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، والروبوت، وشتى صنوف الابتكار، أبدعتها أنامل شبابنا وفتياتنا ممَّن شاركوا بمهرجان عُمان للعلوم، الذي رأى النور بفضل جهود وزارة التربية والتعليم، التي آمنت بقدرات هؤلاء الشباب على صِنَاعة الفارق، فأولتهم كل الرعاية والاهتمام، في تظاهرةٍ علميةٍ تحفيزيةٍ تستهدفُ -عبر 45 موقعا على امتداد ربوع السلطنة- طلاب المدارس والجامعات، والمعلمين والتربويين، والمختصين والباحثين والأكاديميين في المجالات العلمية والتطبيقية، والقطاع الخاص المعني بمجالات العلوم، بل وكل شرائح المجتمع.

لم يكن وَحْده التنظيم المثالي، أو التجارب اليانعة التي تبحثُ عن مزيد دعم ورعاية، هَما مثار الانبهار فحسب، خلال زيارتي للمهرجان يوم الجمعة الماضي مع ابنتي عُلا، بل الانبهار بالخطوة نفسها لتهيئة تلك البيئة المعبَّقة بالأمل والعلم معًا، أمام أبنائنا وبناتنا في مجالات العلوم؛ سواءً الفيزياء العملية والمجال الحيوي والكيمياء والجيولوجيا وعلم الأرض، أو التكنولوجيا بركن ألعاب الكمبيوتر والمناظير التفاعلية والبرمجة والروبوت، أو الهندسة بركن الميكاترونكس والميكانيكيا والإلكترونيات، أو الرياضيات بأركان التسوق الذكي والحساب الذهني والرياضيات المرحة.. في انعكاس لرؤى جديدة تُبرز حجم الاهتمام المتنامي بالاستثمار في قطاع التعليم والعلوم والمعرفة؛ على أرضيةٍ عَطْشى لفعاليات تهتمُّ بهكذا مجالات؛ لإتاحة المزيد من الفرص أمام أبنائنا ليبدعُوا وينطلقوا بأفكارهم نحو مرحلة التطبيق والتنفيذ، عبر منصَّات بالغة الأهمية تدعمهم وتحفزهم وتفتح أمامهم أبواب المستقبل.

وهو في الحقيقة مطلبٌّ يُلح كثيرًا اليوم بجعل الإبداع والابتكار واستخدام التِّقانة وتطويع التكنولوجيا، قاعدة الانطلاق الجديدة أمام هذا الجيل والأجيال اللاحقة، وحثهم على التفكير عميقاً، واختراع أشياء لها أهمية تخدم الوطن، وتدعم خُططه لتحقيق التنويع الاقتصادي، وتوظِّف ما تجود به هذه العقول الغضَّة المتميز في مختلف المجالات، ومنحهم الفرصة كي يفجروا طاقاتهم الكامنة، ومن ثمَّ إنتاج برامج وتقنيات تساعد على دفع عجلة النمو إلى الأمام، وتحقِّق الأهداف بخُطى سريعة، سيما وأنَّ الحاجة اليوم ماسة أكثر من أي وقت مضى لإيجاد مُمكِّنات وحواضن جديدة وواعدة.. وهي مناسبة مواتية للإشادة بعدم اقتصار فعاليات مهرجان هذا العام على مجرد إبراز نماذج لمشروعات طلابية فحسب، بل توفير ورش عمل ومحاضرات وفعاليات تعليمية لتقريب مفاهيم الابتكار والإبداع إلى أذهانهم.

إنَّ الخروج من واقع الأماني المجرَّدة بأن يكون الابتكار هو عَصب المرحلة المقبلة، يتطلَّب خُطوات أسرع وجهود أكبر يضطلع بها مجلس البحث العلمي، لبناء إستراتيجيات جديدة، وعمل مراجعات وإضافات للموجود فعليًّا، والاستقاء من التجارب العالمية ومناقشة أصحاب المعارف للتزوُّد بأجود ما وصلوا إليه من علوم ذات ممارسات وتطبيقات واعدة؛ كمكونات لصناعة المستقبل، ولإيجاد بدائل كفيلة لوضع السلطنة في الصدارة، في ظلِّ حِراك عالمي واسع يجعل مهمة الانتقال إلى عصر المعرفة أشبه بصراع بقاء، وهو ما لن يتحقق دون إنسان متعلِّم وماهِر ومُبتكِر، تتوافر له بيئة محفِّزة لمواصلة مسيرة العمران.

واليوم.. نستطيع القول بأنَّ البناء على مثل هذه الفعاليات والمُبادرات والبرامج الوطنية، يفتح طاقات الأمل في أن تكتسي الفترة الحالية والمستقبلية بمزيد من الأهمية فيما يتعلق بهذا الجانب، لدوره في تحقيق الأهداف الإنمائية، وإنجاز خططنا الإستراتيجية بأفكار جديدة وتقنيات مبتكرة، تُوْجِدها وتصدَّرها للعالم من حولنا أيادٍ وطنية طموحة؛ خصوصا وأن مجالات الإبداع والابتكار في السلطنة لا تزال بِكرًا نوعًا ما؛ مما يوفر أمام أبنائنا فرصًا واعدة، شريطة قولبتها في قالب الإيجابية من قبلهم ابتداءً، والرعاية والاعتناء من قبل مؤسساتنا -الحكومية منها والخاصة والمجتمعية- لتطوير علوم التكنولوجيا وإيجاد بنية أساسية مرنة لها، وتشجيع الابتكار المستدام، وصياغة وتنفيذ مُبادرات هادفة لتعزيز مجالاته، وتزويدها بالمدخلات العلمية اللازمة، وإعادة النظر بالأسس والأساليب التي تستند إليها سياسات العلوم والتكنولوجيا التعليمية، وفقاً لمبادئ تدعم وتؤهِّل القدرات، وتضع مجالات العلوم في صدارة الأهداف.

... إنّ مهرجان عمان للعلوم كخطوة جديدة في مسيرة التحوُّل نحو الرقمنة والابتكار المجتمعي، لتستحق البناء عليها، وإعداد قواعد بيانات مُفصَّلة عن المشروعات التي قدَّمها أبناؤنا خلال فعالياتها، للأخذ بيد أكثرها جدية وقابلية للتنفيذ، وتقديم المقترحات والإجراءات التي تحفِّز على الإبداع، وهو دَوْرنا جميعًا للعمل وفق خارطة واضحة بخُطى واثقة وإجراءات مُنظَّمة. كما نتمنى مشاركة المدارس الخاصة مُستقبلا ضمن هذه التظاهرات الإبداعية المختلفة، وأن نرى كذلك انعكاسات هذا التفوُّق الواعد في مجالات التكنولوجيا، على المناهج الدراسية التي يجدُر بها أن تواكب هذا الحِراك المتطوِّر؛ بما يُسهم في تجسير الفجوة بين الدراسات النظرية والتطبيقات العملية، ويضمن استفادة أكبر من الآفاق التي تُوْجِدها عوالم الابتكار، لتمكين أبنائنا في عالم المعرفة والعلوم.