(1792 – 1804)

الأنشطة الاقتصادية في عهد السيد سلطان بن أحمد البوسعيدي (3 – 4)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

اشتهرت عمان منذ أقدم العصور بصناعة السفن، بل إن السومريين أطلقوا عليها اسم (مجان) الذي يقال أن من بين معانيه: أرض السفن أو بناء السفن. وقد سجلت المصادر التاريخية وصول ملاحين عمانيين مهرة إلى المحيط الهندي وجنوب شرقي آسيا وشرقي أفريقيا منذ عصور مبكرة، واشتهرت المدن الساحلية العمانية مثل صحار ومسقط وقريات وصور وقلهات بصناعة السفن، وكانت السفن تصنع قديما وفقا للأساليب التقليدية، ولا تستخدم فيها المسامير الحديدية، ويتم استيراد معظم الأخشاب اللازمة لبناءها مثل الساج والفيني والعيني والفنش من الهند، وكانت أغلب السفن العمانية تحمل ثلاثة أشرعة باستثناء الشاشة والهوري والشالة وهي سفن صغيرة مخصصة لصيد الأسماك. وقد أدى ازدهار الحركة التجارية بين الهند والخليج إلى انتعاش صناعة السفن والإتجار بها، وكانت عمان تشتري بعض السفن من الهند وهي إما أن تكون سفن جاهزة للبيع سلفا أو يتم تصنيعها بناءً على المواصفات المطلوبة. ولا تقوم صناعة السفن على البناء فقط بل تشمل أيضا أعمال الترميم والصيانة، ومما لا شك فيه أن أساطيل المنطقة ومنها الأسطول العماني كان يتطلب صيانة دائمة، ولا تتوفر لدى العمانيين من الإمكانيات المادية التي تعينهم على صيانة كل السفن بمختلف أنواعها وأحجامها مما اضطرهم للاستعانة بموانئ الهند في كثير من الأحيان.

      وقد استفادت عمان في تعزيز أسطولها التجاري والحربي من السفن التي كانت تقع في أيدي الفرنسيين الذين مارسوا القرصنة ضد السفن الانجليزية في المحيط الهندي، ورغم اعتراض حكومة بومباي المتكرر على هذا السلوك إلا أنه لم يكن لديها حلولاً عملية لإيقاف هذه التجارة التي كانت ترى أنها غير شرعية، لاسيما أن سفن الانجليز المنهوبة كان يتم إعادة بيعها أحيانا في الموانئ الهندية.


أنواع البضائع التجارية المتبادلة:

كان الأسطول التجاري العماني يقوم برحلات إلى موانيء الضفتين الفارسية والعربية من الخليج، وموانيء الهند والأرخبيل الآسيوي الشرقي وشرقي أفريقيا والبحر الأحمر، و يتاجر بأصناف متعددة من البضائع من أهمها التمور التي حققت عوائد عالية، بالإضافة إلى الأسماك، وبعض الأنواع من الفاكهة المجففة ، و اللبان الذي كانت تشتهر به منطقة ظفار في جنوب عمان، وكانت له شهرة تاريخية منذ عصور قديمة لاستخداماته المتعددة في المجالات الاجتماعية والدينية وحتى الطبية. كما راجت أيضا تجارة الخيول إذ يشير وكيل شركة الهند الشرقية البريطانية في مسقط في رسالة إلى حاكم بومباي في 16 نوفمبر 1799 إلى إرساله شحنة من الخيول إلى رجل يدعى سميث وذلك بواسطة تاجر عماني يدعى جمعة بن سلطان الصوري. وبالمقابل استوردت عمان من شبه القارة الهندية وبلاد جنوب شرق آسيا الأرز والتوابل والبهارات وأصباغ الأقمشة والصلب والقصدير والرصاص والسكر والمنسوجات، كما استوردت الأواني النحاسية والسجاد والعقاقير الطبية والفواكه المجففة وبعض الأنواع من الحبوب ، واستوردت من شرق أفريقيا العاج والأخشاب والشمع ومواد أخرى. وكذلك استوردت الكبريت والملح الذي كانت له أهمية خاصة، حيث أن الربح العائد منه كان أكثر من أرباح أي بضاعة أخرى إذ قدرت بحوالي مائة الف روبيه سنويا.

ونظرا لعدم قدرة السوق العماني المحدود على استيعاب ذلك الكم الهائل من البضائع المستوردة من مختلف موانيء المنطقة أعاد التجار العمانيون تصدير بعض البضائع مثل العقاقير والنحاس والملح والزرنيخ ، فضلا عن البن اليمني الذي كانت تستهلك منه كميات كبيرة في عمان وبلدان أخرى في المنطقة  . وكانت تجارة البن لها قيمتها وأهميتها، إذ أن نصف محصول اليمن تقريبا كان يباع في الخليج، ومنه يصدر إلى البلدان المجاورة، وبلغت قيمته حوالي مليون روبيه سنويا في العقد الأخير من القرن الثامن عشر. وأيضا شملت إعادة التصدير كميات مـن التوابل والأرز والسكر والمنتوجات والمعادن ، وكان اللؤلؤ أثمن صادرات الخليج، وقد بلغت قيمة صادراته من البحرين في عام 1790 نصف مليون روبيه، وكان القسم الأكبر منه ينقل من البحرين إلى سورات في الهند وميناء مخا اليمني عن طريق مسقط ، وأيضا إلى بوشهر وكلكتا وأفغانستان وموانيء أخرى في الهند والصين. وكان ميناء مسقط يعيد تصدير النحاس الخردة والعقاقير وماء الورد والفواكه المجففة والحرير الخام والقطن الخام والكبريت والملح من فارس، ويتاجر أيضا فيما يصله من البصرة من أصناف عديدة مــن التمور، وكانت البصرة تشتهر بجودة تمورها، وما يصله من إقليم البنغال الهندي من الأقمشة الصوفية والقطنية والحريرية  ،إلا أن الاقمشة الفرنسية التي كان يتم تصديرها من مستعمرات فرنسا في المحيط الهندي سجلت حضورا لافتا في مسقط والبصرة في السنوات الاخيرة من القرن الثامن عشر بسبب نوعيتها الجيدة ورخص أسعارها. وكان الملح مادة تجارية لا تقل أهمية عن البن إذ كانت مسقط تتاجر فيه، بل تضمنت شروط السيد سلطان بن أحمد لتوقيع اتفاقية عام 1798 مع شركة الهند الشرقية البريطانية أن يتم زيادة كمية الملح التي تحصل عليها بلاده من موانئ الهند من ألف طن إلى خمسة الآف طن. وفي رسالة من السيد سيف بن محمد والي مسقط إلى مهدي علي خان المقيم البريطاني في بوشهر في 22 مايو 1800 احتج الوالي على مصادرة سلطات البنغال شحنتي ملح وزنهما 10آلاف طن من سفينتين عمانيتين رغم موافقة حكومة  البنغال على زيادة كمية الملح المسموح لعمان استيرادها.

وقد ذكر الكابتن جون مالكولم مبعوث الشركة البريطانية أثناء زيارته مسقط و الخليج العربي في عام 1800 أن السيد سلطان يسيطر على كل جزيرة في الخليج يمكنها أن تسهل تجارته مع فارس وتركيا، وأنه يعمل على إجراء تحسينات في هذه الجزر ـ وخاصة في هرمزـ حيث يتطلع إلى تصدير إنتاج هذه الجزيرة من الملح، وأضاف قائلا: " مما لا شك فيه أنه سيقدم طلبا لزيادة الامتياز الخاص بتصديره هذا المنتج إلى البنغال". وقد أوصى مالكولم في خطابه الموجه إلى الحاكم العام في بومباي أن يستجيب إلى الطلب المتوقع من السيد سلطان لضمان أن يلتزم بأي طلب يقدم اليه في المقابل ، مذكرا بأن تصدير الملح يشكل أهمية كبيرة للحاكم العماني.

 

العملات المستخدمة :

          ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مجموعة متعددة من العملات في عمان وشبه جزيرة العرب والدول المجاورة. ونظرا لأهمية العلاقات التجارية التي ربطت الهند بعمان والخليج فقد سادت العملات الأوربية التي كانت تتعامل بها الشركات الأوربية في المنطقة لاسيما شركة الهند الشرقية البريطانية. وعلى الرغم من أن أنواعا عديدة من العملات الأوربية قد جرى سكها لتلبية احتياجات البلدان من العملات في تلك الفترة إلا أن دولارات ماريا تريزا ظلت العملة البارزة والشائعة على نطاق عالمي ، واستخدمت في تجارة الشرق. لقد استخدمت هذه الدولارات في جميع أنحاء المنطقة كعملة تجاوزت الحدود الإقليمية يمكن تداولها دون اللجوء إلى الصيارفة أو مكاتب بيع العملات، إلا إن هذا الوضع أثر تأثيراً سلبياً على العملات الإسلامية المحلية لأنها لم تكن تحظى بنفس شعبية الدولار الذي اعتبر على درجة أعلى من الوزن والنقاء. و ينسب هذا الدولار إلى ماريا تريزا التي عاشت خلال الفترة من 1740 إلى 1780 وهي أميرة النمسا وملكة هنغاريا وبوهيميا وزوجة الإمبراطور الروماني فرانسيس الأول وكانت واحدة من أعظم حكام أسرة آل هابيسبرغ، وفي بداية حكمها أصبحت دولاراتها عملة تجارية مفضلة على مستوى العالم، وأطلق على هذه العملة في منطقة شبه جزيرة العرب وشرق أفريقيا أسماء متعددة منها: ريال فرنسي وكورونا والدولار الأسود والقرش وهذا المسمى الأخير ظل يستخدم في عمان حتى  منتصف القرن العشرين. واستمر الطلب على هذه العملة حتى بعد وفاة ماريا تريزا مما جعل دار الضرب الرسمية النمساوية تواصل سكها مع الاحتفاظ بالتاريخ نفسه (1780) منقوشا عليها لمائتي عام بعد وفاتها.

وظهرت في المنطقة عملات أخرى مثل دوكاتية الهولندية و دوكاتية البندقية  والريال الاسباني. كما شاعت في عمان والبلدان المجاورة لها العملات السائدة في الهند وأهمها الروبيه  والبيزة ، وعرفت أيضاً بعض العملات الإيرانية ومن أهمها التومان واللارية والمحمدية ، إلا إن تداولها في عمان كان محدوداً مقارنة بالعملات الأوربية بل حتى بالعثمانية مثل الغازي  والمحمودي. وبحكم المبادلات التجارية المزدهرة بين مسقط والبصرة تم التعامل بالعملات المحلية السائدة هناك كالتومان وحويزة ورايج وزلاطة. كما ظهرت في كتب الأدب والفقه العمانية أسماء عملات أخرى مثل  الدرهم والفلس  . ولم تذكر المصادر ما يدل على قيام عمان بسك عملة خاصة بها ، بل تأخر قيامها بذلك حتى أواخر القرن التاسع عشر.

و قد  ظهرت الروبية بداية في الهند في عهد الامبراطور المغولي أورنجزيب عالم جير الاول (1655 -1707)، ثم انتشرت في المناطق المجاورة بل وصلت شرق السويس حيث مارست شركة الهند الشرقية البريطانية أعمالا تجارية هناك، وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر تفاوتت قيمتها مقابل الدولار الإسباني بين 2.10 و 2.38 روبيه. أما البيزة أو البيسة فقد تعددت طرق كتابتها في المصادر بين Baissa  و Paissah وPaisa   ويرجح أن تكون قد ظهرت للمرة الاولى في مطلع القرن السابع عشر، واشتهرت في بعض مقاطعات وأقاليم الهند. وتعد البيسة أول عملة وطنية في عمان إذ ضربت البيسة المسقطية في عهد السلطان فيصل بن تركي (1888 -1913).
في حين واصلت إيران في العهد القاجاري سك عملتها بالطرق التقليدية حتى أواخر القرن الثامن عشر عندما أنشأت دار ضرب أوربية الطراز،ويبدو أن التومان الذهبي و القيران الفضي قد شاع تداولهما في صحار ومسقط . وتنسب عملة (المحمدية) إلى الحاكم الصفوي محمد خودا بنده (ت 1581)، وقد انقطع تداول هذه العملة منذ بداية القرن التاسع عشر.

تعليق عبر الفيس بوك