د. صالح الفهدي
في غمرة جلسة حواريّة، تداخلت إحداهنّ لتنسف كل كلمة نبس بها المتحاورون بقولها: أختلف معكم في جدوى فكرة الحوار هذه أصلاً، إذ أنّ الشباب ليسوا بحاجة إلى الحوار وإنما بحسب دراسة قمت بها – والحديث لها- هم بحاجة إلى العمل والزواج...! كانت المداخلة صاعقة من متداخلة يقال أنّها تحمل شهادة عليا في العلوم التربوية...! قامت طالبة جامعية على الفور، وأكّدت على أنّهم كشباب بحاجة ماسّة للحوار، وأكّد شاب آخر ذلك أيضاً؛ فكانت الردود اعتراضاً واضحاً على هجوم المتداخلين من الشباب أنفسهم وليس ممن أناب عنهم، وقوّلهم ما لم يقولوه.
القضيّة هنا ليست أن يختلف أحد مع أحد فالاختلاف باعث للبناء، والنماء، والتطوّر، ولكن الإشكالية تكمن في طريقة نسف مسلّمات أساسيّة يؤمن بها الإنسان، وتؤكّد على قيمتها العلوم الإنسانية باستخفاف واضح ممن يزعم العلم، ويدّعي المعرفة.
إنّما الأمر يدلّ على ظاهرة بدأت تطفو على السطح خلال السنوات الأخيرة، إذ أننا واقعون في معضلة حذّرنا منها سابقاً وهي الإصابة بجرثومة الجهل المركّب الذي يتستّر أصحابه وراء الشهادات المشتراة، والأبحاث المستأجرة، والألقاب المزيّفة..! وهذه المعضلة تزيد من كثيب الجهل المتراكم الذي سبّبه إهمال البحث العلمي، وحشو التعليم، والخلط بين مفهوميّ "النمو" و"التنمية"..!
وبدون شك فإنّ مرض الجهل المركّب له أضراره العميقة على المجتمع، وفي هذا يقول الفيلسوف مالك بن نبي " ألا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإنّ هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوام لأنّ جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه، أمّا الأول هو متخفّ في غرور المتعلمين"..
إنّ دوافع مرض الجهل المركّب، وزيف الألقاب هي مشكلة اجتماعية موغلة في جسد المجتمع تعرف في العرف الاجتماعي بـ "الوجاهة"، وهذا اللّبوس المنمّق الذي هو أشبه بـ"البشت" المزخرف في صورته المادية طريق الترقّي في سلّم المكانة الاجتماعية المرموقة، كما هو إلى الوظيفة العليا، دون أن يكون بحاجة إلى جوهر حقيقي من أدب، أو علم، أو محتد، أو رجاحة عقل، أو كل سمة من سمات القيم النبيلة التي تعلي شرف الإنسان مقاماً، وتحقّق له مراماً..!
وهو موجود في حشاشة التعليم الذي لا يعتمد على الفهم بقدر ما يعتمد على تراكم المعلومة، وحفظها عن "ظهر قلب"، ثم استفراغها في ورقة الامتحان، حيث يكون الرجحان في الميزان لما يرد في ورقة الامتحان، لا ما يصدر عن سلوك وأخلاق الإنسان..!!
وإذ كانت الوجاهات الاجتماعية مزيّفة، والنفاق الاجتماعي مستشر منذ زمن، فإننا بإزاء ظاهرة جديدة تتلبّس لبوس العلم بالألقاب، كما تلبّس البعض لبوس الدّين قبلها بالألقاب أيضاً حتى صار كل من يلبس العمامة شيخاً يقدّم في المحافل والصلوات وإن كان لا يجيد قراءة الفاتحة..!!
إنّ فقدان التقييم على أساس من الكفاءة، والقدرة وتهميشها لصالح العلاقة الفردية، والمحاباة، والتحيّز هو أحد العوامل التي أسهمت في استشراء مرض الجهل المركّب وظهور الوجاهات المزيّفة التي تتلبّس لبوس العلم، دون أن يكون لها حظّ منه، أو أنّها تدّعي العلم فيما لا تعلم، فتهرف بما لا تعرف، دون أن تعي فضل كلمة "لا أعلم" التي وصفت في الأثر بأنها نصف العلم..!".
لقد رأينا رؤية المتأمل مجتمعات توغل في الزّيف، والتملّق، والتمظهر، والنفاق الاجتماعي، رأيناها لا تتقدّم وإن كانت تزعم، ولا تتطوّر وإن كانت تتظاهر..! رأينا أنّ سلوكها الذي لا ينتسب إلى أصالة الفكر، وإلى جوهر التقدم لا يعينها على فهم معضلتها النفسية، بل يزيد من سماكة الحاجز الذي يبعدها عن مأزقها الحضاري..!
وإننا إن لم نعي حجم المشكلة التي تتفشى في أوطاننا من ظواهر على رأسها ظاهرة "الجهل المركّب" سنكون كمثل الذي يتستّر على عيب مكشوف، أو مرض معروف..! وستطفح مجتمعاتنا بحملة فيروسات الجهل المركّب فتشلّ جسد التنمية في المجتمع، وتعيق الاستثمار الحقيقي فيه وهو الإنسان..! ذلك لأن المصاب بفيروس الجهل المركب لم يكن همّه العلم ذاته، وإنّما الشهادة التي اشتراها، واللقب الذي تفاخر به..!
إنّ نشأة الجهل المركب لا يكون إلاّ عن مرض نفسي، لهذا فإنّ تجاهلنا للكثير من الأسس خاصة فيما يتعلق بالتوظيف قد مرّر المصابون بفيروس الجهل المركّب، والأمراض النفسية العميقة إلى وظائف حسّاسة منها وظائف القضاء، والطب، والتعليم، والإرشاد النفسي، وغيرها من الوظائف بل والمناصب العليا..! لقد ذكرت في إحدى كتاباتي السابقة أن رئيس قسم للإرشاد النفسي في إحدى الجامعات قال لي إن أغلب من يكملون في قسمه دراساتهم العليا يعانون من مشكلات، وعقد نفسية..! ولنا أن نتخيّل كيف يكون المصاب بالمرض النفسي فيما بعد موجها اجتماعياً أو مرشداً نفسياً..!
أحد المسؤولين الذين اطلعوا على تجربة توظيف القضاء في فرنسا، قال لي: سألت أحد المسؤولين في القضاء الفرنسي عن مقابلة القضاة فكشف لي عن أمر مهم، وهو وجود طبيب نفسي من بين المقيّمين للمترشّح، حيث يجلس صامتاً لا يسأل المتقدّم لوظيفة القضاء شيئاً وإنّما يبقى مراقباً له، ومحللاً لشخصيته طوال مدة المقابلة على أثر أسئلة تتقصّد معرفة انفعالاته، وكشف عواطفه، والتعرف على سلوكياته وقراراته، وما يظهر في قسمات وملامحه، واستبيان دلالات حركاته، وإشاراته.
إن وجود الطبيب النفسي سيكشف عن حالات مصابة بجرثوم الجهل المركّب إضافةً إلى عقد نفسيّة متأصلة، فقد يكشف باكراً عن طبيعة ذلك المدير الذي سلخ جلد طفل غضّ بالسوط أمام جمهور من زملائه..! أو يدرس حالة المعلّمة التي تدعو لطالباتها أن تمرّ حافلتهم المدرسية بمنعطف فتصدمهم فيه حافلة أخرى فيموتون..! ثم تدّعي بعد ذلك أمام إحدى الأمّهات الغاضبات أن ذلك كان ضمن درس عن حوادث المرور..!!..
أو يقيّم حالة إمام مسجد غريب الأطوار، تصدر عنه سلوكيات غريبة، لا تفعل إدارته سوى تدويره من مسجد لآخر..!
أو يقيّم طبيعة باحث اجتماعي يترك عمله ليتفرغ لأعمال المكائد والدسائس لآخرين..! أو يقدّر نفسية طبيب قاسي المشاعر، بارد الأحاسيس، يتعامل مع مرضاه بجفاء وصلف..!!
إنّ مجتمعاتنا بلا شك ستقع في إشكالية كبرى تؤثّر على فكرها الحضاري، وتنميتها الإنسانية إن لم تميّز بين متعلّم حذق، وجاهل متشدّق..! وإن لم تفرّق بين موظف مخلص، وآخر مهمل، وإن لم تفصل بين معلم فطن، ومعلم متظاهر..! وإن لم تشخّص نفسية قاض رزين، وقاض أحمق..! وإن لم تقدّر كفاءة مسؤول مخلص، وآخر متملّق..!
إنّها ماضية إلى معضلة كبرى إن لم تنتبه إلى هذه الحدود، والفواصل ذات الأهمية في تحديد مصيرها ومستقبلها. فإذا اختفت الحدود اختلط الحابل بالنّابل، ولم يعد المجتمع قادراً على تمييز الخبيث من الطيب، ولا فصل الغّث من السّمين..!
اختفاء الحدود يعني فقدان البوصلة نحو الاتجاه الصحيح بفعل عملية التمويه التي قام بها المصابون بجرثومة الجهل المركب، والعقد النفسية، وأصحاب الوجاهات المزيّفة..!
اختفاء الحدود يعني فقدان الهوية الحقيقة للمجتمع إذ لا يعرف ماهيته في ظل وجود عقليات مضلّلة، ونفسيات معقّدة..!
لن يكون حل هذا المأزق إلاّ بوضع الحدود المميزة، القائمة على الكفاءة، والقدرة، وهذه ليست صعبة في حال توفر الإرادة، وتغليب المصلحة العليا، ووجود قرارات حازمة، ورؤية واضحة نحو التطور المكين، والبناء الحصين، والعطاء الأمين.