أحمد الرحبي
لقد شكل تطور وسائل الإعلام وانتشارها على مستوى العالم، بكل التقدم التقني الذي أصبحت تتميز به، قفزة كبيرة ناحية تحقيق ميزة الإعلام السريع والمباشر الذي يطوي الزمن (زمن الحدث)، أو يكاد يلغيه منذ وقوعه وحتى وقوف المشاهد على تفاصيله، كما أن هذه السرعة والمباشرة كانت الأكثر استثمارا على مستوى تحقيق السبق وعلى مستوى القدرة الفائقة على كشف ما هو مستور، وإلغاء إمكانية حجب الحقائق، أو إعادة صياغتها بما يخدم موقفا رسميا معينا.
وقد كانت بداية الانطلاقة أو القفزة لهذا الشكل من الإعلام -على ما يؤكد كثير من الإخصائيين الإعلاميين- هي تغطية أحداث المظاهرات الذي شهدها ميدان تيان.إن.من، وسط العاصمة الصينية بكين، عن طريق القمر الصناعي، وهي التغطية التي حققت الريادة فيها المحطة الإخبارية الأمريكية سي.إن.إن، بنقل الأحداث في هذه المظاهرات لحظة وقوعها، بكل العنف الصادم فيها، والذي شكل هزة ضمير كبيرة لكل من شاهدها على مستوى العالم، كما أنه يسجل أيضا السبق لفريق سي.إن.إن، الذي خرج مبكرا في أحد الصباحات إلى وسط مدينة سراييفو لينقل للعالم قصف ساحة المدينة بالهاون من قبل الصرب، مُخلِّفين خسائر رهيبة بين المدنيين، وهو الأمر الذي ربط التغطية الإعلامية والصحفية منذ ذاك الوقت بالمساهمة في إثارة النزعة الإنسانية، وخلق التأثير المضاعف لدى الرأي العام العالمي، وتحريك قطاعاته السياسية والاجتماعية من أجل الضغط للتحرك والتدخل في الأزمات.
... إن تطور وسائل الإعلام أتاح تغطية الأحداث المأساوية والاضطرابات في العالم بسرعة متناهية دون عمليات تأخير بسبب عوائق الرقابة مثلا؛ فالمراسلون اليوم وطواقم التغطية يستخدمون أحدث الحاسبات والتليفونات اللاسلكية التي تبث مباشرة إلى الأقمار الصناعية لإنجاز تغطية حية من موقع الأحداث في تغطية مباشرة تضع كل إنسان في الوقت الحقيقي؛ إذ إن كل إنسان في هذه التغطية يرى الشيء نفسه، كما يصف جورج شولتز وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، معضلة تطور وسائل الإعلام التي أصبحت تشكل عبئا على السياسيين، خاصة من جانب عدم قدرتهم على الاستجابة الفورية للتقارير والتغطيات الإعلامية التي تكون عادة غير كاملة وخاطئة، أو أنها بدون قرينة أحيانا بسبب فوريتها؛ لذلك فإن إستراتيجية السياسي تكون دائما أمام مثل هذه المعضلات هي كلما قل الكلام في التعليق على هذه التقارير والتغطيات كان ذلك أفضل، كما أن بسبب هذه التغطيات والتقارير الإعلامية المباشرة تكون بعض الأسرار التي تحرص الجهات الرسمية على كتمانها، مكشوفة؛ مما يجعل احتمالات تطور الأزمات في مهب الريح؛ الأمر الذي يصعب من مهمة السياسي في التعاطي الهادئ مع الأزمة.
وفي الحقيقة إنَّ ما يشكل عصب القوة في وسائل الإعلام الجديدة بغض النظر عن المباشرة والفورية في إيصال تفاصيل الحدث للجمهور المتعطش للتفاصيل، هي الصورة بكل واقعيتها منقولة من مسرح الأحداث بشكل مباشر، والتي ليست بحاجة لتحليل أو تفسير؛ لأنها واضحة وضوح الشمس، فهي تشكل الدليل الدامغ على ما يحدث هناك، فقد باتت الصورة حاضرة حضورا مركزيا في كل المجالات النظرية والتطبيقية السياسية والاجتماعية والعسكرية والادبية والفنية...وغيرها من المجالات المختلفة، فقد تحولت الصورة في الإعلام الحديث إلى سلطة بالغة التأثير، كما باتت أداة إعلامية تفوق الكلمة المنطوقة والمكتوبة، ويكاد المتلقي لا يتقبل خبرا ولا يقتنع برأي ولا يصدق وعدا إلا إذا اقترن بالصورة، فإن الصورة بإمكانياتها التوصيلية الفائقة ألغت في الإعلام الحديث الحدود الفاصلة بين الزمان والمكان، وقد أصبحت الصورة مشاهدة ومقروءة ومسموعة وملموسة؛ فالصورة لها إمكانية سحرية قوية في إثارة انفجارات التعاطف أو الغضب العام، ومن أهم تأثيرات الصورة التليفزيونية خاصة: تحريك ضغط الرأي العام بشكل متزايد نحو التغيير، وهو الأمر الذي حدا بالصحافة المطبوعة إلى تغيير أسلوبها بالعمل على تكثيف الصور حول حدث ما، ولو على حساب التحليل.