قصة قصيرة:

الرّجلُ الذي يقرأُ الجريدة

قيس مجيد المولى - ناقد وشاعر من العراق


كانَ الفاصلُ ممتعاً حينَ إستمرت الرّيحُ بإضافةِ بعض من الأوهامِ وراحت امرأةٌ تلم بعض قطع الأوهام التي تناثرت من على الأطباق التي أتى بها نادلو (الواحة الزرقاء) وراحت تشير بكفها الأيمن إلى الزبون الجالس في أخر الطاولات والذي كان يتصفح جريدة المساء تشير إليه وكأنها تترجى منه أن يدنو قريباً، نهضَ واختار إحدى الطاولات الشاغرة والتي تقع في وسط الصالة بعد أن راوغ الموائد المزدحمة بالجُلاس للوصول لمبتغاه، تذكرَ أنه نسيَ جريدة المساء، جريدة المساء التي كان يقرأ بها والحافلة بما قاله ترامب عن إيران وعن ما آلت إليه الصراعات في الشرق الأوسط وكذا أخبار الإرهاب، والعنوان الرئيس للجريدة عن فوز ميركل بالرئاسة الرابعة، عاد متأبطا جريدته بعد أن ذهبت الريح بصفحتين منها وبعد أن استنشقَ دفعة سريعة من الهواء جلس مكانه في وسط الصالة وهو يكمل تصفحه لجريدته، عزفَ الموسيقيون (لحن الأمواج) وقَدَمَ الجُلاسُ في الصف الأمامي التحايا لهم عبر رفع كؤوس الشمبانيا وكؤوس النبيذ والغريب أن الرجل الذي يقرأ الجريدة لم يعر اهتماما للحفل الموسيقي أو على  الأقل لم يعر اهتماماً لـ"لحن الأمواج" وظلَ على متابعته للعناوين والتقارير الإخبارية عن ترامب وصراعات الشرق الأوسط والإرهاب وفوز ميركل بولاية رابعة لحكم ألمانيا، في حين راحت المرأة التي تلم بعض الأوهام المبعثرة ترفع هذه المرة يدها اليسرى وتشير للرجل الذي يقرأ الجريدة أن يكف عن قراءته أو على الأقل كأنها تقول له: أطلت القراءة، اعتدلَ وكُفْ عن القراءة ، طوى الجريدة ووضعها تحت إبطه لكنه حين تذكرَ أنه في حفل موسيقي وضعها على الطاولة وراح يفتعل الإصغاء للفرقة الموسيقية وفي الوقت نفسه للضجيج الذي خلفه لكنه وبهدوء أخرجَ ورقةً وقلما من جيبه وراح يكتب (لم تجر تغييرات أساسية لا في بنية المكان ولا في بنية الذهن)، و( لاتبدو هناك أشياء مهمة في اللحظات القادمة) واستدار إلى الخلف ليرى الجلاس في الوسط وفي الخلف لايزالون بمنأى عن الاستماع الى الموسيقى ولايزالون  يلتهمون بشراسة الطعام ويكرعون كؤوس الشمبانيا وكؤوس النبيذ، استمرت الريح بإضافة بعض الأوهام وهذه المرة أسهبَت بتجسيدٍ فخمٍ للكائنات الخرافية وكذا الأبالسة والمخلوقات النارية وحكايا عن خلق الإنسان  وفي الوقت نفسه راحَ الرجل الذي يقرأ الجريدة يُخرج من جيبه ورقة صغيرة وبدأ يكتب (الغراب يلعق النجمةَ، سيشقق الرمحُ الشّمسَ، نقيق الضفدعةُ سيطرد الأسد من الغابة) اختلست المرأة النادلة والتي أومأت سابقا له بكفها الأيمن ثم الأيسر فاختلست نظراتٍ من الورقة وتمتمت: هذا ليس شعراً، وبهدوء كتب لها على الورقة هذا جزءٌ من الخُرافة، ابتسمت دون أن تدري لماذا ابتسمت في حين عاد الموسيقيون لعزف رابعة موزارت حسب ما أعلنه عريف الحفل والرجل الذي يقرأ الجريدة بدأ بمخاطبة الجلاس الذين على مقربة منه: هذا ليس باللائق في هذا الحفل، ليس باللائق، لكن الموسيقيون وضعوا أمامهم النوتات الموسيقية وعزفوا وكالعادة رفع الجلاس في الطاولات الأمامية كؤوس الشمبانيا تحية لهم، قال الرجل الذي يقرأ الجريدة والذي انتقل إلى الكتابة على وريقات صغيرة قال وهو يشم الريح بعد أن تحولت من ريح جافة إلى ريح رطبة قال: أدرها إلى ناحيتي يا سيدَ الخُلُق انتظرَ وانتظر ولكن دارت الكؤوس ودارت رؤوس الجلاس على بعضهم البعض ودار النوادل بين الطاولات ودار القمرُ في الأفق ولم يدرها صاحب الخُلق ناحيته، نظر إلى السّماء يدعوها كي تقرأ ماورد بالجريدة وبعد لحظات أتت إجابتها برشقات من المطر ثم توالت الزخات وبدأت الطاولات تخلو من زبائنها، كان أول المغادرين جلاسُ الطاولات الأمامية والذين كانوا قبل رشقات المطر يرفعون كؤوس الشمبانيا والنبيذ ويحيون الفرقة الموسيقية تبعهم بالمغادرة جلاس الطاولات الخلفية، قالت النادلة للرجل الذي يقرأ الجريدة هذه الريح تأتي بالمطر ولم تأت بالأوهام في حين شربت النوتات الموسيقية الكثير من ماء المطر وامَّحت نوتات (لحن الأمواج) لكن الفرقة الموسيقية لم تأبه برشقات المطر والتي تحولت إلى زخات عاصفة، قال المايسترو لن نغادر إلا أن يغادر أخر جليس في الحفل ووضعوا نوتات جديدة وعزفوا (مأتم السّراب)، في مأتم السراب لم يبق من الحضور غير رجل واحد كان يضع جريدة فوق رأسه ويبكي بعد أن أحال المطر جريدته إلى وريقات من ندف صغيرة ذهبت بــ ترامب والإرهاب وصراعات الشرق الأوسط نحو مجاري المياه الأسنة.

تعليق عبر الفيس بوك