قصتان من أدب الحرب

هالة عبادي - سوريا


(1)    الطريق إلى مدينتي
جاءني المساء محملاً بالحنين والأطياف والذكريات... وضعت يدها على قلبي فهناك ما كنت أتمنى لو أنها تسمعه..  بلهفة الأرض العطشى لحبات المطر انتظرت لحظة رجوعي لها، مربكة هي لحظات تفكيري بها، كم أرهقني بعدي عنها، ألا ليت تفكيري يهدأ لحظة... لا نكهة للمساء مالم يحمل لي شيئاً من عطرك، بعيداً عنك كان الليل طويلاً جداً، تغصّ به الروح بكثير من الحزن والدموع، وكأني لا أملك في الدنيا إلا ذكراك، نافذة كنت أفتحها كل يوم فيطل منها صدى صوتك مثقلة بالجراح ليزيد من أوجاعي، ليس من العدل أن تعذبي قلباً تعلمين أنك سر سعادته، ضميني وكوني سياجاً يمنع الغرباء مني، لا نغم أجمل من سكونك يهمس لي أحبك، فأنسى كل من حولي وأصرخ بأعلى صوتي وأنا أكثر وأنا أكثر، منهك قلب تاه بين الحب والحرب، ما أجمل أن أجدك تنتظريني بلهفة الشوق الذي يضنيني، تعلمين أنه كان لي فيك أمنيات كثيرة وآمال كبيرة لكني اليوم اختزلها برغبة أن تصفحي عني لأني ما تعمدت الغياب.
لا أذكر كثيراً مما حدثني به، تكلم عن رجال بهامات عالية وقامات طويلة، قال إن أياديهم كانت تطال نجوم السماء على روؤسهم تيجان غار، لم يعد يعنيني ما يقول بعد أن  سمعت بقراره عفوها عني، ليس عفواً فحسب؛ بل إنها تختارني لأضمد جراحها، يا لجميلتي كم أهواها ...عدت من سحرها وهو يقول: لا أنتظر جواباً الآن...
لست أنسى ساعة استدعاني رئيسي بالعمل ليخبرني أنني سأعود إلى مدينتي المحررة... كان كلامه واضحاً أكثر من اللازم، وكان آسفاً، فالمدينة قد تحررت للتو وظروف الحياة فيها لم تكن صالحة بعد...
سأكون صريحاً معك بشدة، قالها معتذراً: "أنت الوحيدة التي تملك الخبرات والمؤهلات لتدير مشاريعنا هناك".
كان صوته يوحي بنذير أمرٍ لا رجوع فيه، لم يخبرني بمزيد من التفاصيل وقد تركني لذبذبات الصوت وطبقاته تحملني إلى حالة من الهيستريا المكبوتة...
للأمانة لقد كان شخصاً ودوداً خلال فترة عملنا معاً، يحترمني بشدة، وقد كرّس جُلّ حياته للعمل وبسبب هذا فقد ذاع صيته وانتشرت سمعته وللسبب نفسه لم أستطع أن أجد رداً مناسباً.
كلانا مخلص في العمل، يعرف هذا تماماً، والوجهة التي يرسلني إليها هي مدينتي، لكن التجربة التي تدور الآن مختلفةٌ تماماً، وعسير أن يفشل في ملاحظة شيءٍ كهذا، فمدينتي مرت بسبع سنوات عجاف من الحرب وإن صحّ القول فهي الآن تنتصر.
خذي الحذر.. قالها وهو يضع نظارته، لم أعد أسمع كلامه، ولم يخترق صوته تأملي وصمتي، العودة أروع شيءٍ يمكن أن يكون، لكن أن أتزعمها أنا فهذا أمرٌ كنت أخشاه.
  آمال صغيرة ، أشواق وحنين، وصور تعيدها بحور الذكريات ، وأنا في متاهة بين متابعة حياة آمنة مستقرة وبلوغ مدينة أضحت اليوم حُرة... لكنها مهجورة.
أنا في مهمةٍ لا أرغبها، ذاهبةٌ لمدينتي التي أهواها والتي لا أعرف شيئاً عن حالها بعد كل سنوات الغياب ، ومهمتي ليست رغبةً شخصيةً من رئيسي بالعمل، هكذا رتب الأمر، ولم يعد أمامي سوى القبول.
اضطرب قلبي وترددت قليلاً، أنا التي سمعت وقرأت كثيراً عن الحب، وعايشته أكثر، أمام امتحان في مدرسة الحب، هل كنت على استعداد له؟ وهل سأنجح؟ ولا ينجح إلا من يهب كله لمن يحب...
ربما كانت هذه الرحلة هي ما أحتاج إليه هكذا سأقضي على اليأس وعلى الألم الذي أحاط بي مدة سبع سنين، لابأس فقد كنت ولا أزال أهيم حباً بها، ومع هذا فقد اعتبرته متحمساً جداً أو ربما مجنون، فهو من الرجال الذين لا يتخلون عن فرصة عملٍ كهذه، وهذا ما حاول إقناعي به، وكنت أضحك فقبول المهمة بالنسبة لي أشبه بالإقدام على الانتحار.
الزملاء الذين سمعوا بالمهمة اعتبروا القرار نكتة، أما زوجي وأولادي فلم يتوقفوا كثيراً عند القرار واقترحوا علي ترك العمل ومثلهم كان رأي أمي.
في اليوم التالي سألني: أتخذت  قراراً؟
كنت مصدومةً متأرجحة، وثمة تعبير حائر غريب على وجهي حتى أنا لم أفهمه، نظرت إليه بثبات نظرةً مليئةً بالتركيز لأشعره بعدم الارتياح، وكان السؤال الذي يجول بخاطري كيف أستبدل حياة أربعة أطفال - ليس هذا موضعٌ أناقش فيه كم أحبهم - بحلم ؟
 في الحقيقة أنا أحب مدينتي جداً، لكن الأمريكان وما زرعوه فيها لا يروق لي بحال، ولهذا كنت أتجنبها أو أدعي ذلك وإن لم أجرؤ على التصريح به، وبالرغم مما حاولت الذكريات الجميلة إقناعي به، لم يستطع تشاؤمي تخيل مكاناً أكثر بؤساً من وجهتي.
 قال وقد أحس افتقاري للحماس: سيكون كل شيءٍ على ما يرام... وفهم ضحكتي الساخرة على أنها ضحكةٌ مؤيدة...
قل تصديقي بالأمر، حين خرجت من مكتبه وصوتٌ غريبٌ مضحكٌ يملأُ أذني، أنين طفلةٍ موجوعةٍ، صوت نباح ، وأصوات قذائف تتردد في السماء...
كان الإغراء شديداً وصوت الحنين لا يحتمل، انهارت كل الأسوار أمام امتداد طويل يحمل اسمها، لست أنسى نظرتي الأخيرة من على جسرها وقد باتت المسافة بيننا كحلم ينتابني، كان القيظ يكسو الدروب بسراب، لكن قسوة الزمان لم تكن لتتنكر لباقة أمنيات نثرتها على مسافة من حافلة الوداع ونقش بأحرف الحب المجنون بقلبي الصغير لاسمها، وصقيع يرمي بي لزمن من التساؤلات، معتقلة خلف الصمت خرجت منها، مضطرة كنت يومها للمغادرة.
سارعت الخطى نحو حلم باللقاء كان يكبر كل يوم رغم مسافات المستحيل التي تلقي بظلالها، أعدت ترتيب أوراق الحكاية وكل العبارات، لأخرس لغة التردد والحيرة وهي تريد إخماد لهيب شوقي لدخول نفس المكان، بدت لهفة الأمس وشعور بجنون اللحظة أمام عرضه ...
مدينتي تحررت، كم هو خبر رائع، كدت أموت كمداً طيلة السنوات التي مرت لكنني كنت أداري هذا، الآن هي تعود للحياة، كم يسعدني هذا، وقراره لن أرفضه، وإن كان الخراب الذي نال منها يجعل التذوق الجمالي للأمر مستحيلاً، كنت أتمنى لو أنه لم يحدثني به، كان شيئاً منفراً، ولم يستطع أياً منا أن يجد له تفسيراً، سألته متظاهرةً بعدم القلق: متى يجب أن أكون هناك ؟
لمس نفاد صبري، فأجاب: ليس قبل شهر...
حاولت على مهل أن أتذكر روعة مدينتي، سماءها البراقة، بساتينها، ومشيت على ضفة النهر فيها، انتظرت الليل الدافئ الناعم فيها والسحر فيها من كل صوب، قبل أن يفزعني دوي قذيفة، تلاشى بعد قليل، تاركاً قبضة الخوف تخنقني بقوة، وأثرها المرعب يعبث بأعصابي، رسمت ابتسامةً متكلفة وسألته: ألن تكون هناك قذائف أخرى؟
 اتجهت إلى الشارع وكنت أنتظر أن يخفف ضجيج الازدحام ما أحس به.
أنا أعشق الحياة وأعشق الحلم استمراراً لها، استرحت على مقعد شاغر، رعشة برد تأتي من جنبات الورقة، وسطور جنون تعني الكثير لامرأةٍ مثلي، عادت الذكريات بدفءٍ تراودني، لأكتفي بحلمٍ يأخذني بعيداً عن مسافات التوتر.
كل من الحلم والذكريات كان يعلن قصة حب تنوء عن حملها الجبال، أكتمها بصدري، ويفضحها دمع العين.
نحن لا نتوب عن أحلامنا مهما تكرر انكسارها، سمحت لنور الشمس أن يشرق بروحي، أملٌ جديد يجعلني أكثر سعادة وأكثر رغبةً بالحياة.
ايييييه مدينتي، مفتونةٌ أنا بها، من حبها تعلمت نظم القصائد ونسج الحكايات ، ولأجلها صرت مغرمةً بالألوان وتبقى رغم كل شيء بالنسبة لي هي أجمل المدن.
طاف نسيمها بالمكان، بعض المشاعر يفضحها البوح كالشوق لمن نحب، كان صوتها يداعب نبضي، ينادي بالتوق علي، رقة صوتها ورق ورد ينهمر، وعودٌ بإعادة سرد الحكايات على مسامع المطر، آمال تؤسس لمساحات فرح وإن كانت صغيرة، رسمت بإصبعي شفاهها على شفاهي، مضطرة كنت للمغادرة، بكيت على صدرها، مرغت به جبيني، لترابك اشتقت أنا، كان حلماً جميلاً لكن مع الفجر عطرها الشهي تبخر.

 (2) من أيام الحرب
جاءني الصوت جاداً يشوبه البكاء، كلماتٌ أيقظت في داخلي مشاعر متناقضة.
هالة... سلامٌ نفسي من طرازٍ قديم، قلبٌ عامرٌ بحبٍ يفوح بعطر الطفولة، قربها راحةٌ وأمان، أتذكر كلماتها أستنشق عطرها وأستشعر دفئها في صدري، أتشبث بها كمن يتمنى ألا ينسى.
هي اليوم (22/4/2014) لم تعرف الأمان، أتأمل الناس - عبر نافذة السيارة - في طريقي إلى المشفى - إليها - سعداءُ هم، ليتني مثلهم ، ليتني أنا الأخرى لم أعرف هالة.
في المشفى سربُ حمامٍ أبيض يحلق جيئةً وذهاباً، وهي ترقد بثوبٍ شق بالمشرط، تغطي الضمادات أغلبها حتى العيون ، ولهذا لم تستقبلني كما العادة بضحكةٍ في العيون، كيف لا أرى اليوم عيونك بقرارٍ من طبيب لم يعرف يوماً ما حملته تلك العيون.
بضعةُ أقدامٍ تفصل بيني وبينك، وعجزٌ موجع، ثلاثةُ أمتارٍ فصلت بينك وبين الموت لو قيست تلك المسافة بالأمتار، مر بي سكونٌ مرعب، حاولت أن أمزقه ، أن أصرخ أن أجذبك لتنهضي من ذاك السرير، ضحيةٌ كنت من ضحايا هذا الجنون.
يدٌ صغيرة تطرق الباب، يدخل زوجك يلقي التحية لاتتأثرين "الحب يحدث مرةً واحدة في العمر" هكذا كنت تقولين، يتبعه ابنك صوته يؤثر فيك، تسيل دموعك رغم الضماد "هذا هو الحب" نهضتُ من المقعد، بحرارةٍ أمسكتُ يدك الباردة، كانت يدي بدفئها تقول: لأجله... لأجلنا ... عودي فخلف هذا الضماد مبتسمةً تنتظرك الحياة.

تعليق عبر الفيس بوك