شعرة داود الشريان

 

سلطان الخروصي

"أنتم من غرَّر بأبنائنا، ويجب أن تحاسبوا ويحاسبكم المجتمع، من الحرب الأفغانية وأنتم تشحنون أبناءنا وتزجون بهم في حروب كافرة لا نعلم من بدأها ومن الذي أنهاها".. شذرات يانعة تُنبئ بواقع دفين مليء بالأسى والثبور، نطق بها داود الشريان في برنامجه الرائد ضمن ملفات الثامنة -ذات مساء- والذي نتمنى أن نجد أمثاله في كل القنوات الخليجية؛ حيث يستظهرُ بواطن الفساد وظواهره بكل جرأة ومصداقية ومسؤولية وطنية.

وما لفظ به الشريان ليس هذيانا لا مقام له، وليست أطروحات هُلامية "غير مسؤولة"، وليس تصرفا شخصيا "ديكتاتوريا" يستلذ به شُهرة أو مالا، بل هي حقيقة مؤلمة تنهش العمق الخليجي والعربي والإسلامي منذ عقود، رجال الدين هم بلسم الأمة، وهم صمام الأمان، وفي الوقت نفسه بعض منهم ليسوا إلا جحيما لا يُطاق، وقنبلة موقوتة؛ فحينما تكون عقولهم وقلوبهم مدفوعة بأهواء ورغبات و"غرائز" ما أنزل الله بها من سلطان، فالوقوف في وجه "مطوع" يغلو بالدين جهاد، وليست هذه فتوى بقدر ما هي نسبة وتناسب.

لقد كشفت الأزمات المتوالية في أفغانستان، والعراق، وليبيا، وتونس، ومصر، وسوريا تورط بعض رجال الدين بدس السم في العسل والتغرير بأعداد غفيرة من الكوادر البشرية المنتجة في الخليج إلى حطام الحروب والقتل والتشرذم باسم الجهاد والتحرير، والوعد بجنات النعيم التي وعد الله بها عباده المتقين، فشهدنا ملحمة طاحنة من الاقتتال المذهبي والطائفي، تخطاه في بعض الأحيان إلى القتل بالهوية والأسماء الموالية والمعارضة، بل وصلت الحال في بعض الأحيان إلى اجتثاث جذور اللحمة الوطنية كما في العراق ولبنان والآن في سوريا واليمن؛ فأصبحت كالقطعان التي تُساق للقتال باسم العروبة، أو الدروز، أو الأكراد حينا، أو الشيعة، أو السنة أحيانا أخرى، أو المسلمين، أو النصارى...وغيرها من الملل والنحل. وكان وقود هذه الحروب أفكارٌ مسمومة، وآراء غير مسؤولة، ومساومة بحياة الناس التي حرم الله قتلها بغير وجه حق، وما شهدناه في الفترة الأخيرة من "تجارة" بالفتاوى من بعض رجال الدين في الخليج والذين يُشار إليهم بالبنان ما هي إلا وخزات قاتلة ستكون وبالا ونكالا في وقت لاحق؛ فلربما تظهر بواطنه جليا بعد حين في زعزعة العمق الخليج وانعكاس ذلك على اللحمة الوطنية والأمن الإستراتيجي، والانسجام الثقافي والاجتماعي، وقد يعتري وشائج الانصهار المذهبي والديني شيء مما لا يُحمد عقباه.

إن ما تتطلبه الأمة في وقتها الراهن جهدا مضاعفا من رجال الدين في أن يكونوا اليد الأخرى التي تصفق مع رجال السياسة والاقتصاد؛ لبناء قواعد متينة من أجل تحقيق اتحاد خليجي مكين، يُشكل بمكوناته البشرية والاقتصادية طوق الياسمين لحل الكثير من القضايا الإقليمية والعالمية، لا أن يكون جزءا من المشكلة ويكسي نفسه بالشكوك لأطراف النزاع فيما يشهده الوطن العربي؛ فيدمر بذلك جسر التواصل مع أقرانه ومحيطه العربي والإسلامي، ويظل في "قمقم" العزلة الدولية بعيدا عن أن يكون رقما مهما في المنظومة السياسية والاقتصادية، بل إن هذا السلوك سيجعله يفقد الثقة فيما بين أعضائه كما هي الحال اليوم، وسيبحث كل مكون منه عن حلفاء، ولو كانوا أعداء الأمس.

لو تمعنا في الأمر جليا، وقمنا بعلمية حسابية لكل الأفواج "الجهادية" كما يراها رجال الدين، لوجدنا أننا قد خسرنا في المستنقع الأفغاني، وخسرنا في المشهد العراقي، وخسرنا في "كنتونات" الثورات أو النعرات -كل حسب رأيه- في تونس وليبيا ومصر، وكذلك خسرنا التقارب العرقي والطائفي في لبنان منذ اتفاق الطائف، والذي تتغنى به بعض دول المجلس كباكورة نجاح باهرة، فجعلناها مع أصدقائنا الأمريكان والأوروبيين ساحة تصفية الحسابات المقيتة، وسلبناه ديمقراطيته وسيادته المقدسة، كما خسرنا المشهد اليمني والمصري. وها نحن اليوم نتخاصم فيما بيننا دون تردد، بل نجد انسلاخا مهولا من الدور الإستراتيجي الخليجي في المشهد السوري؛ وهو ما نطق به الشريان بخطورة زج الشباب السعودي بصورة خاصة والشباب الخليجي بصورة عامة كالقطعان إلى مسالخ الذبح، وتعميق الاقتتال الداخلي بأرض الأمويين. فمن الأجدى أن يكون رجال الدين  طوق النجاة للأمة من العبث الفكري والخواء العاطفي؛ لتملأ قلوب شبابها بالطاعة والرحمة، وتُعمق عقولهم بالتبصر والتفكر في مصالحها ورقيها، فلماذا نعيب على الغرب محاولاتهم المتكررة في تدنيس صورة النبي الكريم بكاريكاتيرات تُجيش على إثرها عواطف الملايين من الأمة لتكون ردة فعل غير مسؤولة، فتجده ينادي بالجهاد في قتل الأبرياء، وتشريد النساء، وتقطيع أواصر البراءة التي توشح جمال الطفولة باسم المذهب أو الطائفة أو العشيرة أو الحزب، دون الاكتراث بتبعاتها الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، بينما لا يحرك في نفسه ساكنا حينما يتصل الأمر بأمته ووطنه.

إن هذا القطر من الوطن العربي تقع على عاتقه مسؤولية جسيمة بضرورة التروي في اتخاذ القرارات، فليس من المنطق أن تُغدق الأموال دون توقف في سبيل تحقيق الأناة وإثبات الوجود فتأخذهم في ذلك العزة بالإثم، وليس من الإنسانية أن نُقامر بحياة الشعوب وسيادة الدول بمحكات مقيتة منطلقها المذهب أو الأجندة الخارجية، وليس من الدين في شيء أن تُباع الفتاوى بجرة قلم على (شيكات) مفتوحة بما تستلذ به الأفئدة وتقر بها الأنفس، فشباب الخليج يُجلون علمائهم ومشايخهم ومن يلتحفون بجودة الفكر وصفاء القلب ونقاء السريرة في تفسير المواقف والأحداث بصورة تربط بين الدين والدنيا، وتقدم مصالح الإنسان أيًّا كان؛ فقد جُبل المرء على حب الحياة والعطف على الآخرين، فلا تجعلوهم يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين بتصورات وآراء لا أساس لها من الصحة، ولا تلقونهم بعنجهية التحزب المذهبي أو الطائفي؛ فلقد أوكلوكم ثقتهم فلا تخسروها، وكونوا كما عهدناكم قدوة حسنة ننهل من جنان خلقها عبير الحياة، ونسلتهم من عبقها معنى الإنسانية، فلا تُوردوهم مورد الكفر والشقاق والنفاق؛ فتُفتح بذلك أبواب الجحيم، وتستعر أتون المجازر والمذابح، فنفتح على أمتنا وأجيالنا مزابل القرون الوسطى من جديد، ادعوا إلى تجويد التربية وتمكين الاقتصاد وتنقية الفكر من شوائب المجتمع.. فالله سائلكم يوم العرض عمَّا قدمتم.

sultankamis@gmail.com