زاهر المحروقي
إذا لم يكن الإعلام يحمل رسالة؛ فالأولى له أن يبتعد عن ميدان الحياة العامة. والاهتمامُ بالعُلماء والمثقفين والمفكرين والمبدعين من الأدباء وأهل الفن والرياضة وكلِّ القطاعات، يدخل ضمن صميم الدور المطلوب من الإعلام والإعلاميين. فهناك حالاتٌ كثيرةٌ لمبدعين في الوطن العربي وقعوا ضحية للمعاناة والتجاهل والمرض والحاجة؛ فغادر بعضهم هذه الحياة وفي نفسه غُصَّة، فيما بقي الآخرون يعانون ويتسولون حتى لأدويتهم، بعد أن أفنوا أعمارهم في سبيل العلم والأوطان وغير ذلك من المقاصد النبيلة.
وهناك حالاتٌ كثيرة في الوطن العربي تحكي معاناة أولئك الذين أعطوا لوطنهم ولم يأخذوا في المقابل إلا المرض والفقر والتجاهل والنكران، ولا يمكن حصرها في مقال واحد؛ إلا أنني أشير هنا إلى أنّ بعض وسائل الإعلام نسيت دورها الحقيقي في إبراز مثل هؤلاء، وانشغلت بقضايا جانبية تافهة، رغم كثرة هذه الوسائل في الوطن العربي، إلا أنها غثاء كغثاء السيل. وما حصل للدكتور الشيخ عبدالحميد متولي دليلٌ على تقصير هذه الوسائل. فمن الوقائع الأليمة التي أحزنت الشعب المصري، ما تعرض له العالِم عبدالحميد متولي مؤلف العديد من المجلدات والكتب في أصول الدين والشريعة، وكان أستاذًا في جامعة الأزهر، وتتلمذ على يديه مجموعةٌ من أكبر العلماء في الوقت الراهن، إلا أن تدهور الحالة الاجتماعية والمادية له جعل حاله أشبه بالمتسولين، بعد قضاء معظم أوقاته منعزلا، دون أن يسأل عنه أيُّ شخص.
وتبدأ القصة عندما قام الشاب علي عبدالوهاب بنشر قصة الدكتور عبدالحميد بالكامل عبر صفحته في "فيسبوك"، بعد أن قضى يوماً كاملاً معه في منزله المتواضع والبالي، ونشر عدة صور له تُبيِّن مدى الحالة المتدهورة التي يعيش بها هذا العالِم؛ وقال في منشوره ذاك إنه التقى شيخًا مسنًا في حالة يُرثى لها، وذلك بأحد المساجد بمنطقة الجبل الأخضر شرق القاهرة، وكانت المفاجأة -كما ذكر- أنَّ هذا الشيخ الطاعن في السن عالمٌ أزهريّ كبير أحيل للتقاعد وتدهورت حالته الصحية والمادية، مطالبًا في تدوينته بضرورة تكريم هذا العالم وانتشاله من ظروفه الصعبة. وقد شارك مئات الآلاف في نشر التدوينة، ولقيت التدوينة التعليقات الكثيرة، فانتشرت القصة بسرعة كبيرة، حتى جاء الرد من شيخ الأزهر بأن الأزهر تدخل بسرعة لنجدة تلك القامة الدينية والعلمية الكبيرة. ومعظم التعليقات تُظهر مدى استياء الناس من الحالة التي وصل إليها مستوى العلماء والمشايخ في ظلِّ التكريم المستمر وغير المبرر للفنانات والراقصات (طبعًا لستُ ضد تكريمهن)، وهذا ما دفع الملايين من أبناء الشعب المصري من المسلمين والمسيحيين -حسبما نشرته الصحافة المصرية- لمشاركة المنشور.
ومن ضمن ما ذكره علي عبدالوهاب في منشوره ذاك، أن الدكتور عبدالحميد متولي كان صاحب أشهر برنامج ديني في التسعينيات، وهو برنامج "حديث الروح"، والذي كان يقدِّم من خلاله شرحًا مبسطًا عن أصول الدين، والفهم الصحيح للدين الإسلامي، مع كوكبة من علماء مصر، إلا أنّ بعض الصحف المصرية شككت في هذه المعلومة، وسألت القريبين منه عن صحتها، وهذا وحده يثير الدهشة، كيف لوسائل الإعلام ألا تعلم شيئًا عن برنامج حقق شهرة كبيرة وليست فترة التسعينيات عنا ببعيد!
ما قام به الشاب علي عبدالوهاب، هو من صميم العمل الإعلامي؛ فبمجرد نشره لمنشوره ذلك، سارعت الكثير من الصحف المصرية لتغطية حياة الشيخ عبدالحميد متولي، وزارته في البيت ونشرت له صورًا كثيرة عن بيته المتواضع وحالته الصعبة، ومؤلفاته المرمية في الأرض في ظروف صعبة؛ ممَّا يطرح سؤالا هو: أين كانت هذه الصحف عنه؟ ولو لم يقيِّض الله علي عبدالوهاب لنشر قصته، كيف كانت ستكون حالة الشيخ؟ وإذا كان السؤال أيضًا عن تقصير وسائل الإعلام؛ فالسؤال مطروحٌ أيضًا لمشيخة الأزهر: أين كانت عن الشيخ عبدالحميد متولي من قبل؟!
لقد سحب مُدوِّنٌ في فيسبوك البساط من تحت قدمي وسائل الإعلام التقليدية المصرية والعربية. وعندما ألقيتُ نظرة على الصحف المصرية وجدتُها قد خصّصَت صفحات للحديث عن الشيخ متولي، وإن كانت الخطوة محمودة إلا أنها ستظل ناقصة؛ لأنها لم تقم بواجبها من قبل. ونستطيع أن نقول إن أمثال الشيخ عبدالحميد متولي كثيرون في طول الوطن العربي وعرضه. وبالمقابل، فإنه بالمثل الشاب علي عبدالوهاب قليلون كذلك بين المغرِّدين والمدونين، فكم من تغريدة خدمت الناس، وكم من منشور فرق بين الناس وأثار الفتن؟
انضمَّ الشيخ عبدالحميد متولي إلى القائمة الطويلة لمن أعطى بأمانة وإخلاص، ثم عانى ما عانى. وقد سبق لي أن أشرتُ إلى كثيرين مثله في الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه؛ وذلك في كتابي "بأعمالهم لا بأعمارهم".