"اشتدي أزمة تنفرجي"

 

عبيدلي العبيدلي

ما أن تندلع إحدى الأزمات، ويشتد أوارها، حتى يتردد على شفاه الكثير منا مقطع يقول "اشتدي أزمة تنفرجي". يكررها البعض منّا دون أن تكون لديه أية فكرة عن مصدرها. والحقيقة أنها كما جاء في كتاب "كشف الظنون"، وتعرف تاريخيا، "القصيدة المنفرجة لأبي الفضل: يوسف بن محمد بن يوسف التوزري المعروف : بابن النحوي المتوفى: سنة 513  وقيل : لأبي الحسن: يحيى بن العطار القرشي الحافظ، والأول: أرجح  نظمها: حين أخذ بعض المتغلبين ماله فرأى ذلك الرجل في نومه تلك الليلة رجلا وفي يده حربة وقال له:  إن لم ترد أمواله وإلا قتلتك فاستيقظ وتركه (وردها) كذا في : (الغرة اللائحة) قال ابن السبكي: وكثير من الناس يعتقد أن هذه القصيدة مشتملة على: الاسم الأعظم وما دعا به أحد إلا استجيب له".

ومطلع القصيدة يقول

اشتدي أزمَةُ تَنفَرِجي *** قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ

ظَلامُ اللَّيلِ لَهُ سُرُجٌ ***حَتّي يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ

سَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ *** فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي

إلى أن تقول الخاتمة

يا رب بهم وبآلهم *** عجل بالنصر وبالفرج

 وأختم عملي بخواتمهم *** لأكون غداً في الحشر نَجِيِ

العنصر الأساس في القصيدة هو ذاك الأمل الذي يتمسك به الشاعر، وإصراره على أن هناك حل قادم لأزمته مهما اشتدت وتفاقمت، بل ربما يكون ذلك التفاقم عنصرا مهما من عناصر التعجيل بالحل.

واليوم هناك إجماع على أن المنطقة العربية عموما، والخليجية منها على وجه الخصوص، تمر بأزمة طاحنة، لم يسبق لها أن عرفتها في تاريخها المعاصر. وقد وصل البعض إلى درجة عالية من التشاؤم تكاد أن تقترب من اليأس في إمكانية الوصول إلى حل، على عكس "القصيدة المنفرجة" التي يتمسك صاحبها بالأمل.

ولعل أول خطوة على طريق الوصول لحل أزمة هو الشعور بها، وبخسائرها الفادحة التي تترتب عليها، بدلا من التعامي عنها، ومحاولة التملص من تداعياتها. وشأنها شأن العلاقات البشرية الأخرى هناك أنواع متعددة من الأزمات، يمكن حصر الأهم بينها في ثلاث فئات رئيسة هي: الأزمة المستعصية على الحل، وهي ذلك النمط من الأزمات التي يكون فيها بقاء طرف قائم على فناء الطرف الآخر. أي أن درجة التناقض بين الأطراف الضالعة في الأزمة حادة ومعقدة، بحيث لا يمكن للأزمة أن تنحل إلا لصالح طرف على آخر. فتصبح الأزمة مسألة وجود وفناء. أقرب الأمثلة على مثل هذه الأزمة الصراع العربي –الفلسطيني، والذي كلما امتد أجله، كلما تداخلت عوامل حل أزمته، التي لا يمكن حلها إلا بغياب طرف واستمرار طرف آخر. والحديث هنا عن حل جذري شامل، وليس شكلي مؤقت. فالصهاينة، وهم سبب اندلاع الأزمة والطرف الذي يقف وراء تأجيجها، يدركون قبل سواهم أن المعركة، معركة مصير.

الأزمة المستعصية، وهي تلك الأزمة المتفاعلة عواملها السلبية، والتي يتناسب حلها عكسيا مع زمن استمرارها، فكلما تواصلت، كلما تعذر الوصول إلى حل جذري لها، دون أن يكون قول ذلك مدخلا لزرع اليأس في قلوب أطرافها، وهذا ما يقصده شاعر "القصيدة المنفرجة" حين يقول " اشتدي أزمة تنفرجي"، حيث يرى أن تفاقمها هو جزء من الوصول إلى حل نهائي لها.

·الأزمة المستفحلة، هي الأزمة الطارئة التي تندلع فجأة بسبب عوامل طارئة، ومن ثم فهي أكثر الأزمات قبولا للحل، دون أن يعني ذلك سهولة ذلك الحل، لكنه، بفعل طبيعة هذه الأزمة، وأسباب اندلاعها، ومواصفاتها، تصنف في خانة الأكثر استعدادا لأن تقبل الحلول المطروحة أمام أطرافها. وهذه الأزمة، هي الأخرى، عمرها قصير مهما طال أمدها، بالمعيار التاريخي لإنهاء الأزمات. والأزمة الخليجية الراهنة تنتمي لهذه الفئة من الأزمات، فهي طارئة، وجذروها يفعة، والوصول إلى حل لها، مهما غلا ثمنه، وطال أمده، أمر غير محال.

وكما ذكرنا أعلاه، فالخطوة الأولى على طريق الوصول إلى حل لأية أزمة هو الاعتراف بها، وهو ما نشهده اليوم. على أن الاعتراف وحده لا يكفي، بل ينبغي أن يكون قائما على ركيزة الرغبة الجادة الصادقة الباحثة عن حل لهذه الأزمة، التي إن أريد له أن يكون جذريا ونهائيا، ويستأصل عوامل إطلالها بوجهها القبيح مرة أخرى في المستقبل القريب، بل حتى البعيد، تنطلق من الوصول إلى حل وسط تقدم فيه بعض التنازلات، دون أن يعني ذلك إفلات من تسبب في فيها من العقاب.

لكن العقاب يختلف كثيرا عن الانتقام، فالعقاب يزاوله الأب تجاه أبنائه، وتمارسه الدول في تنظيم شؤون المجتمع، ومن ثم فله قوانينه المنطقية التي تضبطه، وأسسه الإنسانية التي تنظمه. في حين، وعلى النقيض من ذلك، يكون الانتقام سلوكا لا إنسانيا يهدف إلى التشفي، واشباع الغريزة الحيوانية لدى الجهة التي تمارسه.

وفي خضم معالجة الأزمة وبتر ذيولها لا بد من وضع حد لأنشطة كل من تباروا في سكب الزيت على نيرانها، فمثل هؤلاء هم من لهم المصلحة الحقيقية في استمرارها، والفائدة القصوى من تفاقمها، والفائدة العظيمة من عدم الوصول إلى حل لها.

لقد اشتدت الأزمة الخليجية، وهذه علامة من علامات وصولها إلى نهاياتها، ومن ثم اقتراب انفراجها. كل ما هو مطلوب اليوم الإنصات لصوت العقل، وتغليب المصلحة الخليجية العليا فوق كل المصالح، هذا إن أردنا لليل هذه الأزمة أن ينبلج، وأن تكون خواتيمنا مع الصالحين، وننجو، كما يقول يوسف التوزري، مع الناجين في يوم الحشر.

وفي حل الأزمة ليس عودة المياه إلى مجاريها فحسب، وإنما قطع الطريق على كل من يحاول أن يضع العصى في دواليب ذلك الحل، أو أن يعكر صفو مياه العلاقات الخليجية- الخليجية الصافية الرقراقة.

سَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ *** فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي.