طالب المقبالي
قبل أقل من عام، كتبت مقالا بعنوان "وماذا بعد التقاعد؟"؛ تطرقت فيه إلى المرحلة الانتقالية في حياة الموظف: من عالم القيود والرسميات والأوامر، إلى عالم جديد يتطلب تخطيطا مسبقا وتهيئة لمرحلة جديدة يكتنفها الغموض، وتتبادر إلى الذهن هواجس يصاحبها القلق والخوف من العالم الجديد، وقد ذكرت في مقالي أنه يجب على الإنسان أن يخطط مسبقا ليعيش شيخوخة نشطة مليئة بالأحداث والفعاليات، بعيدة عن التكلف والرسميات.
ومع إشراقة صباح يوم الجمعة، فاجأت أسرتي برسالة أستشيرهم فيها حول قرار سوف أتخذه بعد مرور أربعين عاماً من العمل، هي أطول من عمر أكبر أولادي. وكانت جميع الردود مؤيدة للقرار، ومن بين تلك الردود اخترت عنوانا لمقالي "اعقلها وتوكل"، تيمُّنا بنصيحة الرسول عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي استشاره في أن يعقل ناقته أو يتركها طليقة ويتوكل على الله، فقال له الرسول عليه السلام: "اعقلها وتوكل"، وهو بمثابة درس للأعرابي أن يأخذ بالأسباب والمسببات مع التوكل على الله تعالى.
فقلت في مطلع رسالتي: "أوجه إليكم في هذا اليوم المبارك رسالة مهمة، فيها تحديد مصير وقرار حاسم أريد استشارتكم فيه، على أن تعطوني رأيكم فيه بصراحة وشفافية ودون حرج". فكانت الرسالة تتلخص في إشراك أسرتي في قرار التقاعد الذي اتخذته بعد مسيرة عمل امتدت لأربعة عقود. وقلت أيضاً: "لقد التحقت بالعمل مع مطلع العام 1978، وكنت حينها في سن السابعة عشرة، وسوف أكمل في العمل أربعين عاماً مع مطلع العام 2018". سنوات سرقت مني زهرة شبابي وعمري، بل وسرقت صحتي، ولكن هذه سُنة الحياة.
40 عاماً عشتها مسلوبَ الحرية لفترة من الوقت، لم أنعم خلالها بأي إحساس من الحرية؛ لأنني قبل 40 عاماً وقعت على بند يلزمني بالحضور إلى العمل في أي وقت تتطلبه ظروف العمل. فينتابني إحساس دائم بأنني مسجون، أو رهن الإقامة الجبرية؛ وبالتالي فإنني أنتظر الساعة التي أصبح فيها حرًّا طليقا، وفي حلٍّ من العقد الذي وقعته بمحض إرادتي.
وما زاد رغبتي في طلب التقاعد: هو تلك الأعمال الإضافية التي أنيطت بي، إضافة لعملي، والتي تتطلب طاقمًا من الموظفين لإنجازها، وليس موظفا واحدا. وبهذا القرار، فإنني سأتحرر من هذا السجن بداية العام المقبل -بإذن الله- قبل بلوغي سن الشيخوخة، كي أحس أنني خرجت بمحض إرادتي، لا مطروداً بسبب شيخوختي. وهذا الفارق يمنحني إحساسا نفسيًّا أنني سأخرج وأنا ما زلت في قمة عطائي.
البعض يقول: ابحث لك عن عمل!!! ولماذا أبحث عن عمل؟ ألا يكفي 40 عاماً من العمل؟ أنا أبحث عن الراحة، أريد الانطلاق إلى العالم الواسع والخروج من عبودية العمل، أريد السفر والتجوال في العالم والتمتع ببقية عمري؛ فمعاشي التقاعدي ودخولي الأخرى ستؤمِّن لي راحتي، وفارق الراتب لا يذكر مقابل الراحة النفسية.
كما أنني أريد التجوال في بلادي لاستكشاف جمالياتها، فأجوبها شرقاً وغرباً قبل أن تنهار صحتي بالكامل، وأصبح غير قادر على قيادة السيارة؛ فالنظر أصبح يضعف، والصحة تتهاوى يوماً بعد يوم، وأخشى أن أكمل سجن الأربعين بسجن آخر إلى الممات.
كما أنني أريد أن أتفرغ للقراءة والمطالعة والكتابة؛ فقلمي لم يجف بعد، وسأواصل المسير بإذن الله. فقد كان وقتي ضائعا بين العمل وبين متطلبات الأسرة، والإجازة تمضي سريعاً.
وقد أوضحت لأسرتي أنني أنوي التقاعد مع مطلع العام المقبل، وإنني خططت جيدا لهذا اليوم، وستكون حياتي حافلة بالأحداث والفعاليات كما لو كنت على رأس عملي، ولكن الفارق أنني هنا حرٌّ وغير مقيد بوقت أو زمن، وغير مرتبط بتوقيع أو بصمة؛ فأخرج متى شئت، وأعود متى شئت، دون تعبئة ورقة استئذان أحدِّد فيها متى خرجت ومتى عُدت، ولأي شيء خرجت.
muqbali@hotmail.com