قصص قصيرة

صابر رشدي – قاص من مصر


(1)     مندوبة مبيعات:
البنت االجميلة، التى لا تزيد عن تسعة عشر ربيعا، قوامها النموذجى مخفى عن عمد مدروس تحت زى يحاول طمس هذا التكوين السحرى وطمس أنوثتها.
 كانت تحمل حقيبة متوسطة، وبين يديها ألعاب صينية.
وقفت قبالتنا.
- مساء الخير.
- مساء الخير . قمت بالرد، فهذه عادتى مع مندوبى المبيعات .
بادرتنا با لحديث عن بضاعتها، روبوت آلى يتحدث بلا توقف، وتضع أمامنا أشياءها الصغيرة، كثيرا ما أتورط فى الشراء، لا أحتمل نظرات الخجل وهم ينصرفون دون بيع .
كانت فائقة الجمال وهى تحاول مداراة هذا الألق الإستثنائى الكامن فى عينيها  .
 يجلس إلى جوارى مجموعة من الأصدقاء، أحدهم رقيع، أشتم رائحة الأنثى بسهولة, ونهض تاريخ كامل من الوقاحة الدفينة لديه، بدأ اشتباكه مبكرا .
ـ بكم الواحد ؟
ردت الفتاة .
ـ هما اثنان، الثانى هدية .
واصل نصب شباكه، متجها إلى غايته، لكنها آثرت التغاضى، وإعطاء انطباعا بالسذاجة، وعدم الإلتفات إلى مراميه.  بإصرار أخذ يوسع هجومه.
ـ كم عمرك؟
أجابته بهدوء، ولكنه واصل الأسئلة.
كانت صامدة، مدربة على تلك الإقتحامات، لكنه جعل يخترق كل ماهو محظورفى حواره، كلمات بلا حياء, فشعرت بالاختناق حيال هذا الموقف اللاإنسانى.
فى ذلك الحين، انطلقت إشارات متصلة، تخترق روحى،كانت جميعها تنبعث من الفتاة، بدأت معها تحولات أربكتنى، فهى تعمل على توليد تضامنات فورية لا أستطيع إيقافها، حتى تراصفت معها أفكارى. قررت الشراء، كى أنهى هذا الموقف غير المحتمل قسوته.  
قبل أن أدفع إليها بالنقود، سبقنى هو بنقود كثيرة.
ـ دعك من هذه الأشياء وتعالى معى.
ارتبكت البنت, اغرورقت عيناها بالدموع، ثم استدارت مهرولة, تتخبط فى مشيتها.


 
(2)     موقف
كنت جالسا مع جمع من الأصدقاء، نثرثرفى أشياء فارغة, حتى لمحته يقترب منى, ويسحبنى بيدى. ـ تعال معى.
مشيت إلى جواره فى هدوء، مستجيبا له، لم يكن أريحيا مطمئنا كعادته. ثمة أنكسار، وآسى دفين، يطويه بين جوانحه، كان يبدو متأثرا وحزينا، هذا ما ألاحظه عليه منذ فترة غير قصيرة.
ـ انظر إلى هذه الباحة!
قال.
ثم أضاف بعدها والدموع تلمع فى عينيه.
ـ لابد من عمل سرادق كبير هنا.
ـ لمن؟
سألت.
فذ كر لى صديقنا الذى توفى منذ أيام قليلة دون عزاء.
ـ نحن أولى به، أسرته لم تهتم بشئ. قال.
ثم بنبرة مخنوقة أضاف.
ـ سأتكفل أنا بجميع المصروفات.
وقفتُ ساكنا أمام جديته، وأناقته البرجوازية، أمعن فى سمته الرصين, رغم أنه فى مقبل العمر.                                 ـ متى نقيم العزاء؟ سألت.
ـ غدا، لا تؤجل. أجابنى .
فى الغد، كنت أقف فى مدخل السرادق، أتلقى العزاء، مسترجعا توجيهاته لى بالأمس، قبل أن يفارقنا. كنت مذهولا، غير مُصدِّق.

(3)     نقود
وجدته مزروعا أمامى بغتة.
ـ معك نقود؟ سأ ل.
لم أرد، مستغربا جرأته، فأنا لا أعرفه.
عاود السؤال.
ـ معك نقود؟
ـ لا.
قلتها كى أتخلص منه، بعدما ساورنى القلق، وإن كان مظهره لا يعطى انطباعا بأنه متسول، فهؤلاء يطلبون مباشرة، لايستفسرون.
ـ أكيد معك نقود؟ واصل إلحاحه.
شعرت بالغضب، وتحركت من أمامه قبل أن أنفجر، سار ورائى بضع خطوات، ثم نادى:
ـ أستاذ، أستاذ.
توقفت مضطرا حيال نداءته المتكررة، كان لحوحا مضجرا.
ـ ماذا تريد ؟
ـ لا شئ. قال بهدوء.
ثم أضاف وهو يمد يده بمبلغ كبير:
 ـ تفضل.
على الفور، شعرت بالارتباك، وتحسست جيوبى، أخرجت حافظتى، وقلبتها بين أصابعى، كانت خالية.    
يد الرجل ما زالت ممدودة، وأنا أتراجع مترددا.
أخيرا تناولت النقود، كانت تلك التى ألقمتها حافظتى عند خروجى من البيت، انصرفت مسرعا لابتعد عنه، سيطلب منى مكافأته، هكذا تصورت.
بعدها بساعات، مرت سيارة متمهلة إلى جوارى، أطل منها وجه أعرفه، وجه الرجل، كان يشير إلى بيده التى تحمل النقود ذاتها، وهو يرسم ابتسامة غامضة، قبل أن يختفى تماما عن ناظري.

(4)     غيوم
ثمة حزن يتعلق بى، يسبح فى أوردتى، يجعلنى أحن إلى البكاء مع هذه الغيوم الكثيفة، والضباب المستريح فوق أهدابى. تهزنى رياح الخريف، تسقط أعضائى رهينة التيبس، التراخى، الخطو الكسول، أطل على العالم بخيال زائل, لا أقطف أقحوانا، لكنى أصير رانيا إلى مدن مخربة، تعسا، متعسرا فى شباك الموت.
كل شيء مُرٌّ، فاتر، ومنذور للعدم، يؤسس للخسارة، والهزائم الثقيلة.
كل شيء مُرٌّ ، وأنت ترخى أجنحتك للشقاء بعد فقدان براءة الطفولة.

(5)     مطاردة فى أمشير
أمشير، وضع البذور، البرد القارس، الحر المفاجئ، المطر، الغبار، الوحدة، تجول الأشباح الحزينة فى الطرقات، جلبة الأشياء الغامضة، غيمة الأسرار.
(6)     رغبات القطط فى السفود
قط يطارد قطة فى مداخل البنايات، على الدرج المظلم، فوق الأسطح المهجورة، والأنثى لاتستقر قبل مرور ساعات طويلة، ربما تستسلم على مضض، على تخوم مدينة أخرى، بعد جرى متقطع لعدة أميال.
حينها، يتقدمان، كغريبين، أجبرتهما الطبيعة على أفعال غير ضرورية، شطح بلا شوق ولا رواء، فعل معذب.
يتفرقا بعدها بجدية لافتة، كغريبين أيضا، بعد خلوة مؤلمة، دون أن يتركا أثرا سعيدا على وجه الزمان، متساويين فى عدم المتعة، كأنهما هاربان من جريمة نكراء.

(7)     كتابة
أكتب الآن نصا قصيرا, موجودا فى ذهنى منذ فترة، لكنى تكاسلت عنه، تركته ينهض وحده فى منتصف ليلة لامعة، كعادتى مع هذا النوع من القصص، فأنا هنا، لا أفعل شيئا، فقط أكون قلما متحركا فوق الصفحة البيضاء، يخط وحيدا مايتراءى له.
هناك رجلان يتصارعان على امرأة حزينة، وهى لا تدرى. أيضا، هناك امرأة لا تروض، تسللت بطيئا، لتقتنص واحدا منهما.
فى خلفية القصة أنثى مفعمة بنزوات متوترة، تعمل فى قلب الظل كدليل محبة، لكن الصمت يتساقط كل لحظة، والمشاهد المرتجاة تشحب، وتكاد تتوقف، ربما وثبة عميقة، تذهب بالعناصر القليلة إلى الفراغ والعدم.
إحساسى بالزمن يترهل فى غياب أبطال هذه الحكاية، وإضرابهم عن المواصلة، وخجلي من عدم العثورعلى مايستحق الكتابة يجعلنى أصر على المضى قدما فى بناء حكاية أخرى مؤجلة، بعدما تبدل الليلة أحوالها، وتنعس الفراشات الهائمة.

تعليق عبر الفيس بوك