أنا كما كنتُ

مصطفى البلوشي – مسقط – سلطنة عُمان


من الصعوبات التي تعترض طريق (الحب)، في البيئة العربيّة هي أن أعظم أنواع الحب مثالية قد لا يشير عندها إلى أي شيء مرغوب فيه أو محبب فيمن نحب، وإلا كان حبُّنا مشروطا، وبالتالي كان حبا غير مثالي، وحينذاك فإن الشخص الذي يكون موضوعا للحب سيكون في مأزق أبديّ لا فكاك منه، لأنه حتى يكون موضوع حب صادق من طرف شخص آخر، فإن عليه أن لا يكون أي شكل من أشكال الاستغلالية، وأنه لكي أقدم الحب إليك حسب حبك لي، فهذا يعني أن أتأكد من أنك لا تحب ذكائي/ جمالي/ خلقي/ انجذابي نحوك، والأهم هو أن لا يهمك إنْ أعطيتك جسدي أوغير ذلك.
لكن ما الذي يتبقّى مني إذا تجردّت من كلّ ما أملك من تلك الصفات؟ في الحقيقة إنّ النظر إلى عزل تلك الأشياء يبدو أمرا غير معقول؛ فإذا أحببتني حبا غير مشروط فأنت تأخذ الصفات في الحسبان وتحبها، ولكن ليس بما تتضمنه من شيء جيد، ولهذا عليك أن تنظر - على سبيل المثال - إلى مزيّة شخص (ما)، وتحبّ تلك المزيّة، لكن ليس لأنها مزيّة محببة في ذاتها، بل لأنها شيء يتعلق بمن تحب.
هل كنت سأُسَرّ لأنك تحبني بمعزل عن الأفعال التي أفعلها؟ وهل أريد منك أن تحبّ مزاياي لكن ليس بسبب ما هو محبب فيها؟ أليس جيدا لمن هو في حالة حب (المحبوب) تأكيد كونه محبوبا في شخصه أو أفعاله؟ فنحن لا نستطيع أن نجرد أنفسنا عندما نكون في موضع الحب من مصدر ذي قيمة وأساسي، أعني حاجتنا إلى تأكيد شعورنا بقيمة أنفسنا عبر محبة الآخرين لنا.
إذن، فالحب غير المشروط يقتضي أن نحب جميع الأشخاص، وقد نحب جميع الأشياء من دون أن ترتبط برغباتنا نحو (مَنْ) و(ماذا) نختار أن نحب؛ قد تكون فيهم بعض الصفات المرغوبة، فيلزم من هذا أن نحبهم، لكن ليس من أجل حسن هذه الصفات، علينا حب هذه الصفات بقدر تعبيرها عمن نحب، وليس لأنها محبوبة في ذاتها.
في ضوء هذه الاعتبارات، يستحيل أن أحب جميع الأشخاص والأشياء، إلا إذا انعدمت الشروط لدي لحبهم جميعا، ويبدو واضحاً تماماً أيضا أن أحدا منا لا يستطيع ذلك، وبالتالي فجميعنا يحب بشروط.
إذا نظرنا بدقة إلى الأوضاع التي تمر بها المجتمعات العربية والإسلامية  الملقاة على أجساد النساء، فهي تاريخ طويل من الغموض الدامس الذي لم يوضح إلى الآن الحقيقة المطلقة في مسألة الحياة والنضوج المجتمعي في نظرة الرجل للمرأة، ومن سيطرة السلطة الذكورية على النظام الاجتماعي لدينا، فعبارة "أنتِ شرفي" التي يرددها كل رجل لكل امرأة تربطه علاقة بها، هي مفتاح فهم هذا الإشكال التاريخي العميق في ثقافتنا، وهي العبارة التي توجز المغزى في أن يلقي الرجل بكلمة الشرف على عاتق جسد المرأة، بكل ما تحمله كلمة الشرف من إرث تاريخي ثقيل ومشوه ومليء بالهزائم، هذه الكلمة التي تحمل معاني عُصابية وشديدة التعقيد النفسي عن مجال الجسد والمتعة؛ فالقيم الإنسانية أصبحت من أهم لغات التعايش البشري، ومكون ثقافي رئيس في المجتمعات العربية، يشكِّل القاعدة الأساس في تحمل المرأة مسؤوليتها الشخصية سلوكا وفعلا.
وفي المجتمع اليوم من السائغ جدًا أن يشترط الرجل على زوجته الحجاب، أو التزام العمل في قطاعات نسائية منفصلة؛ وذلك لأنه رجل متدين يسعى لطاعة الله، بينما لا يجد هذا الرجل في نفسه مسؤولية التزام هذه الطاعة كما يشترطها في زوجته، أو أخواته.
فالعلاقة بين الإنسان وربه يفترض أن تكون علاقة عمودية بلا وساطات أفقية، بمعنى أنها علاقة مباشرة لا تمر عبر وسائط أينما كانت هذه الوسائط، هذا هو جوهر فكرة التوحيد في الأديان السماوية الثلاثة، لكن تاريخ المجتمعات المتدينة شهدت دائمًا تغيرات مختلفة في عامودية هذا العلاقة، ومن أهم هذه التغيرات في العلاقة بين الرجل والمرأة، وما يحدث في المجتمع العربي اليوم هو صورة أخرى لهذا التغير، حيث يبدأ الرجل في التعبّد لربه من خلال المرأة، حيث يفرض عليها الحجاب ولا يفرض على نفسه صلاة الجماعة، يفرض عليها عدم العمل في قطاع مختلط، ويدير هو قسمًا نسائيًّا، هذه الحالات ليست ازدواجية بالنسبة لتفكير الرجل، فهو يشعر أن من مسؤوليته علاقة المرأة بربها هو لا يتعدى على شيء، بل يؤمن في قرارة نفسه أنه واجبه الديني قبل أن يكون واجبه الاجتماعي.

إن الارتباط بين الديني والاجتماعي يصعب فصله في المجتمع، فالرجل الذي يتعبد لله لا يجد حرجًا في الاستشهاد بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية التي تؤكد وجهة نظر سلطته على المرأة في أن تحتجب أو أن تنعزل في العمل المختلط، هو يجد في الدين ما يسوغ سلطته الذكورية على المرأة، فعلى الرغم من عدم التزامه بالأوامر الدينية الأخرى المفروضة عليه كرجل، إلا أنه لا يثور ولا يغضب لحق الله وحرمة أوامر الدين في نفسه، بل سينجرح قلبه وسيفور دمه لأجل حرمة أوامر الدين في المرأة، وهو يعلم يقينًا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
فلا تحزني على ما مضى يا صغيرتي فإنه لطاحونة الحياة أن تأخذ بالإنسان إلى حيث لا يعلم، وعيشي كما أنتِ، فمن يطمح في الوصول إليك سيأخذك كما كنتِ قبله.

تعليق عبر الفيس بوك