من ذاكرة الورق

وفاء سالم – سلطنة عُمان


(٢)
"نحن لا ننسى"
قيل بأن النسيان نعمة
ولكننا لا ننسى دائمًا؛إذ يحدث أن نمتلك ذاكرة أشبه بذاكرة الفيلة أو الجِمال..
فأنا لا زلت أذكر الطفلة ذات الأعوام الثلاثة وهي تبكي من ألم "الموسى" وهو يعبر رأسها صوب البثور المتقيحة لتعيش سنوات عشرة بتسريحة صبيانية ..
الأطفال لا ينسون طعم الألم دائمًا..
أذكر الطفلة ذات الأعوام الستة وصرخة عمها المدوية وهو ينتشلها من مِرجَل الحلوى الغليظة بعد أن سقطت ككرة جلدية
نحن لا ننسى فعلًا
فلا زلت أذكر أول يوم دراسي لي، وكيف نظرت مديرة المدرسة إليّ بحذر، وإلى يديّ طويلًا وأمرت بعدها مربية الفصل أن تضعني في الفصل وتمنعني من الوقوف في أرضِ الطابور مراعاةً لمشاعر الطالبات اللاتي قدَّم ذويهن اعتراضًا على وجودي بين فتياتهن "خشية التعرض لعدوى " وكأن الاحتراق ينتقل بالعدوى..
لم أنسَ سنوات الدراسة الخمس الأولى وأنا أقضيها بين سيارة والدي وبين الصفّ الدراسيّ دون أن أرى طابور الصباح  لمرةٍ واحدة، أو ساحة المدرسة  ومقصفها لسنوات ..
لم أنسَ من قالت لي: اجتمعت البشاعةُ فيك في أكمل صورة
ولا قريب والدي الذي قال: وكأني أرى رجلًا أمامي كلما رأيتها..
لم أنسَ دمعة أمي وهي تبكي عليّ حين قالت لها نساء العائلة: خبئي ابنتك عن صغارنا فهي تسبب لهم الخوف ونحن على صغارنا نخاف من عدواها..
ولن أنسى خوف أبي وهو ينزع الشاش بغضب وتسبَّب لي بضرر أكبر  حين بدأ يضع لي مادة صمغية على موضع الحريق الأم ما تزال رائحتها في أنفي حتى اليوم كي..
لم أنسَ رفيقة الدراسة التي ما إن أصبحت في مقاعد الإدارة طلبت مني أن أتوقف عن التواصل معها  حيث لم تعد تتوافق صداقتنا مع وضعها الوظيفيّ الجديد..
لم أنسَ قول أحد أفراد أُسرتي: تُكمن المشكلة في أنك (لا شيء)..
لم أنسَ ابنة عمي وهي تُخبرني بأنها تخاف على صغارها مني ..
لن أنسَ رجال العائلة وهم يقولون لأبي: نحن نخاف على سمعة القبيلة فابنتك ستجلب العار لنا بوضعها أسم القبيلة في الصحفية.. ولا غضبهم حين بدأت مشروعي التجاريّ ومارست هوايتي الأُخرى في التجول بين مطرح ودبي لشراء البضاعة.
لم أنسَ.. لا زالت ذاكرتي للآن تضج بأمور وأحداث كريهة
لذلك أُمارس هواياتي الآن وأَشْغَلُ نفسي كي لا أترك لهم فرصةً للانتصار.
(2)
(على هذه الأرض"قميص تمزق"..) يا صديقي لقد تمزّق القميص الذي خِطَّهُ على قلبي،
لقد كنتُ أخيط أطرافه بإتقان مُحكَّم
تمزَّق القميصُ وظهرت المضغة التي أُخبئه فيها
هأنذا أقف عاجزةً
وكم حاولتُ مسبقًا ضمّ أطرافه المتناثرة فانبثقت مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، كل عين تحمل شيئًا منه حاولت ضمها جميعًا لكنها أبت إلا أن تكون ثلاثة أعين في كل واحدة منها أربعة صفات.،
وفي كُلِ صفة يقف مارد يشبه في تفاصيله التي تؤرق مضجع الصمت
يصطدم به ناثرًا ما في جعبته من أحاديث مشفَّرة..
تعبت يا صديقي وأنا أحمل أثقالي وأُرمِّم الخيبات من حولي
وأنا أفككُ أزرار العمر ،
أُعيد  رتقَ الوشاح الذي لففته حول عنق سجادة روحي
 "هرمتُ" وأنا أُضيء الشموع خشية أن لا أتعثر بين أروقة الْحُلْم المعتمة
 "احترقتُ".. وأنا أُحاور صغار الوقت وأضبط ثواني الأسئلة
 "جُرِحتُ".. وأنا أُعيدُ ترميم مدائنه
 "جَففتُ".. وأنا ألوِّن جدرانها الشاحبة بألوان سمائه الماطرة
 "شحبتُ".. فماذا تبقى على هذه الأرض "أنا" يستحق الحياة لأجله "غيري "
ومن "غيري "يعيد الحياة إليّ؟..
تعال يا صديقي وصَلِّ لأجلي ،لتورق زهرة في يباسي..

تعليق عبر الفيس بوك