سؤال في التفسير

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (3)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ – جامعة نزوى - عُمَان
نواصل هنا في الحلقة الثالثة والأخيرة من خواطرنا البلاغية واللغوية حول قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (سورة الشورى: الآية 25)، ولنسأل الآن عن لفظة (عِبَاده): من هم هؤلاء الذين استحقوا أن يضيفهم الحق إليه؟ نقدم بين يدي سؤالنا استقراء لكلمة (عباد) مضافة: وردت كلمة (عباد) في القرآن الكريم مضافة إلى ضمير يعود إليه جَلَّ وعلا على الوجه الآتي:
أولا - عبادِ = عبادي: عباد + ياء المتكلم (الله سبحانه وتعالى) محذوفة في الرسم القرآني أربع مرات، (عبادِ) بالكسرة عوضا عن الياء، ومكتوبة (عبادي) سبع عشرة مرة. ومنها: قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾، وقال تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
ثانيا -  عبادك = (عباد + ك) سبع مرات، ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَإِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾.
ثالثًا -  عبادنا = (عباد + نا) اثنتي عشرة مرة، ومنها: قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدَاً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾.
رابعًا - عباده = ( عباد + الهاء) خمسا وثلاثين مرة، ومنها:- قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
وقد أُضيفت (عباد) إلى (الرحمن) = (عباد الرحمن) مرتين: قال تعالى:﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِيْنَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنَاً﴾ كما أضيفت (عباد) الى لفظ الجلالة (الله) = (عباد الله) سبع مرات، ومنها: قال تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ﴾. فهل هناك أشرف من هذه الإضافة التي تدل على اللطف والاختيار والرحمة؛ لأن من هؤلاء العباد: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيْحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدَاً للهِ﴾، و﴿ذُرَّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوْحٍإِنَّهُ كَانَ عَبْدَاً شَكُورَاً﴾، و﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ﴾، و﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾، و﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾، و﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾.
وقد أجمع النحاة والبلاغيون على أن "المضاف يكتسي من المضاف إليه تعريفا وتخصيصا"، فنخلص من هذا إلى أن (عباده) في هذه الآية سيكونون مع هؤلاء الذين اصطفاهم الحق، وشرفهم بعبوديته، فضربوا أروع الأمثلة في امتثال أوامره ونواهيه وتبليغها ففازوا، ومنهم نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيْراً﴾.
أمَّا عن رأينا وتصورنا لاستعمال الحرف (عن) ودلالته في سياق قبول التوبة في الآية الكريمة، موضع السؤال، فنقول وبالله نستعين: (عن) هنا مقصودة لذاتها، ولا يحسن أن تكون بمعنى (من ،بكسر الميم)، ولا يتضمن الفعل (يقبل) معنى الأخذ ولا غيره، وإنما جاءت (عن) هنا لأن: التوبة خالصة بكل معانيها: اللغوية والشرعية، التي ذكرناها في موضعها. وهذه التوبة تحصل مرة واحدة، فلا يكرر (العبد) المعصية التي اقترفها مرة أخرى، ولا يعاودها مطلقا؛ فصدور التوبة لا رجعة فيه؛ لأن (عباده) هنا – على ما نقل عن ابن عباس – "هم أولياؤه وأهل طاعته" لأنهم ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾؛ فتأمل ماذا يكون عليه التائب بعدئذ : عابداً - حامداً – سائحاً – راكعاً – ساجداً. ولأنهم أيضا كما وصفهم: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحَاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُوْنَ شَيْئاً﴾، ولأنه كما قال عن نفسه: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُ التَّوَّابِيْنَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، ولأنه يعلم أن توبتهم قطعية؛ لأنهم سيردون يوم القيامة إلى من يعلم سرائرهم وعلانيتهم، فلا يخفى عليه شيء من باطن أمورهم وظواهرها ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهرَ وَمَا يَخْفَى﴾، وينبئهم بما كانوا يعملون بما كان خالصا منهم؛ ولذلك أسند فعل القبول إليه حصرا وليس لأحد غيره.
وأنَّ الفعل ( قَبِلَ – يَقْبَلُ ، وتَقَبَّلَ – يَتَقَبَّلُ ) وما تصرف منها حين اقترن بــــ (من) في الآيات التي ورد فيها يحتمل القبول وعدم القبول؛ ولذا جاء في الآية موضع السؤال مقترنا بــــــ (عن) لتحقق القبول منه سبحانه وتعالى والقطع به وهو التواب الغفور الذي أوجب على نفسه الرحمة؛ ولهذا كله أميل إلى أن الحرف (عن) هنا مقصود لذاته ولا يعبر عن معنى حرف آخر ، وليس هناك (تناوب) ولا (تضمين). ونختم قولنا هذا بما نقله الفخر الرازي (ت 604ه) في تفسيره الكبير، فقال: "قال القاضي : لعل (عن) أبلغ لأنه يُنبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قُبلت"، أعلمت الآن يا ولدي كيف استقر المعنى ؟ وكيف يفهم سياق (يَقْبَلُ عن...) بدلا من (يَقْبَلُ مِن...)؟! وإليه وحده جلَّ وعلا قبول التوبة. فانهج هذا النهج تفلح – إن شاء الله – إن أشكل عليك تعبير من بيان القرآن المعجز ؛ لتصل إلى فهم مراد الله تعالى.
المراجع:
(1)    الزمر/10، الحجر/49،
(2)    الحجر من الآية 39،40، الكهف من الآية65
(3)    فاطر، من الآية 28.
(4)    الفرقان، من الآية 63.
(5)    الصافات/40.، النساء، من الآية 172.، الإسراء/3.، ص، من الآية 17.، ص، من الآية 41.، مريم/2.، الإسراء/1.
(6)    ينظر مثلاً: الأستراباذي: شرح الكافية، 2/208. وينظر: يحيى بن حمزة العلوي: الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980م، 2/107.
(7)    الأحزاب/21.
(8)    القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب العلمية،بيروت، 1993م، 16/18.
(9)    التوبة، من الآية 112.
(10)    مريم/60.
(11)    البقرة، من الآية 222.
(12)    الأعلى، من الآية 7.
(13)    آل عمران، من الآية 29.
(14)    القاضي هو: عبدالجبار بن أحمد عبدالجبار (ت415هـ) شيخ المعتزلة في عصره.
(15)    الفخر الرازي: مفاتيح الغيب 16/148.

تعليق عبر الفيس بوك