المواطن الذي هبط من السماء

د. سيف المعمري

لم يكن كل ذلك الاحتفاء الذي حدث الأسبوع الماضي بمواطن شيء طبيعي وكأنَّه مواطن هبط من السماء لا مواطن خرج من الأرض التي نعيش عليها، لم نعتد أن نحتفي بالمُواطنين العاديين من قبل، فالمواطن في معتقداتنا الذهنية إن قدم شيئاً لوطنه فإنما يرد جميلاً وديناً هكذا هي أبجديات الوطنية التي تعلمناها صغارا وتمَّ ترسيخها فينا كبارا، أما المسؤول إن قام بشيء من صميم مسؤولياته وواجباته فإنَّ ذلك يُعد شيئاً آخر إضافياً لابد أن يشكر عليه، أما رجال الأعمال الكبار الذي يملكون مجموعات اقتصادية كبرى فهؤلاء إن أتوا بشيء بسيط لا يُقارن بحجم أنشطتهم وثرواتهم يوصف ما قاموا به بأنَّه لم يحصل من قبل.

ولذا فنحن أمام تفسيرات مُختلفة للمسؤولية الوطنية، وما قام به المواطن صالح الزرعي الأسبوع الماضي من التَّبرع بمبلغ كبير من ماله من أجل النفع العام يُعد حادثة تقودنا إلى التوقف مع المسؤولية الوطنية وتعيدني إلى أسئلة عدة عميقة سألت عنها في كثيرٍ من المُحاضرات التي قدمتها خلال السنوات الماضية حول المواطنة وكان أهمها هو من الأكثر قدرة على التعبير عن واجبات المُواطنة: هل الأثرياء والتجار ورجال الأعمال أم المواطنون العاديون؟ وأعاد آخر طرح السؤال بطريقة مُختلفة وقال هل التعبير عن الوطنية هو من اختصاص المُواطنين العاديين بينما المطالبة بالامتيازات والهبات هي من اختصاص نخبة المجتمع الاجتماعية والاقتصادية؟

لم استغرب ما قام به المواطن الزرعي من التعبير عن انتمائه لوطنه ومُجتمعه؛ لأنني أؤمن إن كان من نماذج تجسد المواطنة الصادقة فسوف تخرج من الولايات والقرى والحارات العُمانية حيث المواطنين يعيشون على تواصل مع مُجتمعهم، ويتفاعلون معه بصدق وإخلاص ويعطونه بصمت وبدون ضجيج في الصحف لأنهم يدركون أنَّ الأفعال الوطنية حين تخرج بصدق لا تحتاج إلى تسويق إعلامي كما تروج الصحف بشكل دوري لتبرعات صغرى من شركات كبرى ونجدها تبرز لوحة بخمسة الآلاف ريال قدمتها هذه الشركة أو تلك .. أو نجدها توزع حقائب مدرسية لعددٍ بسيط من الطلاب في قرية يتعرض المجتمع المحلي فيها إلى تأثيرات صحية تتزايد نتيجة أعمال تلك الشركة، ولذا في ظل هذا الواقع من تراجع التعبير عن المسؤولية الوطنية والاجتماعية من قبل أصحاب الوفرة الذين ساهمت الدولة والمُجتمع في تضخيم أرباحهم وتوسيع أعمالهم يخرج لنا المواطن الزرعي ليقدم مثالاً وطنيًا في مرحلة اقتصادية تتطلب نماذج حية في العطاء والعودة للمجتمع ومشاركة الحكومة في إنجاز مشاريع التنمية من بناء للمدارس والمراكز الصحية وغيرها من الخدمات التي لا يزال المجتمع يحتاجها من أجل المُحافظة على نموه، نعم يفترض أن لا يؤجل أي مشروع يعود بالنفع على البلد سواء كان صغيرًا أو كبيرًا طالما فيها عدد كبير من أصحاب الأموال، ما قيمة هذه الممالك الاقتصادية إن كانت تعزل نفسها عن المجتمع سواء من حيث توظيفها لأبنائه أو مُشاركتها في إكمال مشاريعه المُتوقفة نتيجة للأزمة الاقتصادية التي كشفت عن أنه لا أحد مستعد لتحملها إلا المواطنين العاديين الذين يعطون الكثير بتحملهم لتوقف الترقيات وزيادة الرسوم على مُختلف الخدمات التي يحصلون عليها.

إنَّ من التناقضات الكبيرة التي تُثير ألماً في النفس هو توجه هذا المواطن وغيره من المواطنين لدعم موازنة بلدهم والتخفيف عنها في الوقت الذي لا تزال مؤسسات حكومية تتعامل بشيء من اللامبالاة مع المال العام، وكأن هذه المؤسسات تعمل في بلد آخر غير البلد الذي توجه فيه كل هذه الدعوات للتقشف والمُحافظة على المال العام؛ اكتفي فقط بمثالين قريبين للتدليل على ذلك؛ أولهما قيام مؤسسة تعليمية بتوظيف أجانب في وظائف أكاديمية نوعية في وقت لا تتوافر لهم جداول أي لا يوجد لهم عمل وفي الوقت نفسه يتم الاعتذار عن توظيف الكوادر الوطنية.

أما المثال الآخر فحدث لي شخصيًا حين طلب مني إنجاز عمل نوعي لإحدى المؤسسات وحين ظهر لي أنَّ العمل يحتاج إلى عشرات الأيام والساعات وموارد لإنجازه قيل لي أن لا موارد لذلك، وظهر أنَّ هذه الجهة لديها موارد وتعاقدت في نفس الوقت مع شركة ومن المُفارقات أن هذه الشركة جاءت للتعاقد معي للقيام بالعمل دون علم تلك المؤسسة.

هذه بعض الأمثلة على كيفية التَّعاطي مع المسؤولية الوطنية والمال العام في الوقت الذي يُدرك مواطنون عاديون مثل الزرعي وغيرهم واجباتهم ومسؤولياتهم الوطنية في هذه المرحلة ويعبرون عنها بصدق وبشكل أكبر من قدراتهم وإمكاناتهم لا يزال آخرون يديرون ظهورهم لكل ما يجري حولهم ويتمركزون حول أنفسهم وجماعاتهم الضيقة ولا يقدمون إلا القليل من إمكاناتهم الكبيرة، وكأن العطاء الوطني في معتقدهم مجرد كلمات وخطابات وتصريحات، وكأنهم يعيشون معنا في نفس الوطن ولكن تفصلهم عنَّا عشرات الآلاف من الكليومترات ولكن لا غرابة في ذلك لأن البعض يفسر المواطنة بأنها الأخذ بدون حساب والبعض يفسرها بأنها العطاء بدون حساب؛ وشتان بين الفريقين فريق يستثمر في الوطن ما يملك وفريق يقفز بالأرباح ليأخذها بعيدًا عن الوطن؛ فأي انتماء وطني يحمله هؤلاء إن كان الوطن في نظرهم مجرد أرض الأرباح والعوائد، هل يمكن أن يحفز ما قام به المواطن الزرعي فيهم شيئاً لست متفائلا إلا في القلة القليلة منهم والتي سأكتب عنها يومًا وما تقوم به.

الزرعي لم يحرج أحدًا كما يعتقد البعض لأنَّ الغيرة في العطاء ضعيفة ولكن الغيرة في الامتيازات والاستثناءات كبيرة جدًا عرفت البعض لا يزال غير راضٍ بعد خروج من مناصب حكومية ظل قابعًا فيها لأربعة عقود ولذا نحن نحتاج إلى قدوات وطنية ونماذج تجسدها تخرجنا من هذا الضجيج الذي نجد فيه الجميع متحفزا للربح على حساب هذا المجتمع واحتياجاته، والزرعي قدم المثال والقدوة التي ستحرك البعض من عامة المواطنين لمزيد من العطاء لبناء مجتمعاتهم المحلية وسد احتياجاتها، وحين يتزايد عدد الذين يقتفون أثره سوف يقلل ذلك من الضغط على الحكومات التي لا يزال كثيرون يحملونها مسؤولية كل شيء، مع أن المرحلة تتطلب مشاركة في تحمل أعباء التنمية من الجميع خاصة من الفئة التي لديها القدرة على تعزيز المسؤولية الاجتماعية لأنّه بقدر الوعي بالمواطنة ومتطلباتها تزيد المجتمعات من تماسكها وقوتها.