البرلمان من دائرة الفردية والفئوية إلى رحاب الفضاء السياسي الوطني (1-2)

عبيدلي العبيدلي

يتصدَّر البرلمان، أو الغرفة التشريعية، قائمة العلامات الفارقة في مسيرة المشروع الإصلاحي في البحرين، التي تسلخ عقدها الثاني. ونجح البرلمان -خلال فترة قصيرة من حياته- فمهما قيل عن البرلمان كمؤسسة وأداء أعضائه النواب كأفراد، أن يكرس نفسه كأحد معالم المشروع الإصلاحي. ومن هنا، يبقى البرلمان كمؤسسة، ظاهرة ينبغي التمسك بها، ومن الأخطاء القاتلة التفريط فيها، وذلك للأسباب الإستراتيجية التالية:

1- شكل مطلب تأسيس سلطة تشريعية مطلبا محوريا من مطالب شعب البحرين في تاريخه الحديث، ولم يكن ذلك المطلب عفويا، ولا تجميليا، بل كان في صلب احتياجات استكمال بناء الدولة الحديثة. ومن ثم فمن غير المنطقي، كما يحاول البعض، إعادة عقارب الساعة نحو الخلف، نتيجة حالة استثنائية شابت التجربة، كما يحلو للبعض أن يردد. ولمن شاء أن يتعظ من تجاربه الخاصة، عليه التوقف عند تجربة حل المجلس الوطني في منصف السبعينيات من القرن الماضي، كي يكتشف، وبوضوح ساطع، مدى التراجع الذي عانت منه مسيرة الحركة السياسية البحرينية، وحال دون تطورها بشكل طبيعي تطويري، إسوة بنظيرتها الكويتية، جراء ذلك الحل التعسفي لذلك البرلمان، وفي مرحلة مبكرة من حياته.

2- ينقل البرلمان الصراعات، مهما احتدمت، من شكلها البدائي المتوحش، إلى إطارها المدني المتحضر. وتغادر القوى المتصارعة، بشكل طوعي، متدرج، خنادق صداماتها العنيفة نحو غرف منظمات المجتمع المدني المتآلفة. والتاريخ البحريني المعاصر مليء بصور الصدامات العنيفة التي كان في الوسع تحاشيها، فيما لو كان هناك، حينها، سلطة تشريعية قادرة على تنظيم تلك الصراعات، وتشذيبها، ونقلها من طابعها الصدامي العنيف، إلى نطاقها السلمي الصحيح. فهمها احتدمت الصراعات داخل حجرة السلطة التشريعية، يبقى سقفها حضاريا، ولا تتجاوز حدود أعرافها التي صاغتها عقود من تجارب الأمم المتحضرة.

3- يُشكل البرلمان مرآة صادقة تعكس الواقع السياسي للبلاد. ففي مراحل تردي الأوضاع السياسية تتراجع فعاليته كمؤسسة، ويضعف أداء أعضائه كأفراد. ومن ثم فهو بيضة القبان التي يمكن أن تقيس نبض الشارع السياسي، وثقل حركة القوى الفاعلة في ساحته، وعلى أكثر من صعيد. هذا يجعل البرلمان، بخلاف ما يتوهم البعض، رافعة تاريخية من شأنها تقليص مواقع الضعف التي يمكن أن تدب في جسد أية معارضة سليمة بناءة، لا تعاني أعضاؤها من ندبات أو اعوجاج غير طبيعي يشوه حركتها، ويقودها نحو طرق وعرة لا ينبغي لها السير فيها.

4- يضع البرلمان بين يدي المواطن المصباح المنير الذي يعري بشفافية لا متناهية كفاءة القوى السياسية، وجدوى برامجها. ويحدد الحيز التي تحتله، أو تستحق أن تحتله في ساحة العمل السياسي الواسعة. ولا ينزع البرلمان ورقة التوت عن جسد الحركات المعارضة فحسب، لكنه يقوم بذلك إزاء الدولة وخططها التي تضعها والإدارات التابعة لها التي تتولى إداراتها وتنفيذها. وهكذا يتيح البرلمان للمواطن فرصة الحكم على مكونات العمل السياسي في البحرين، على نحو سليم وناضج في آن.

على أنَّ ذلك لا يعني أن يتحول البرلمان -كما نشهد اليوم- من أداة تشريعية، مستقبلية، جريئة، إلى مجرد حِلية خرساء لا يتجاوز دورها المباهاة، والمفاخرة. ولتحقيق ذلك ينبغي تحاشي بعض المطبات من جانب، والتسلح بالرؤية الصحيحة الواعية من جانب آخر. فمن أجل الوصول إلى هذه المعادلة القادرة على بناء برلمان قوي وفعال، ينبغي تجنب، أولا، جيوب الهواء الملوث التالية:

أ- تهميش البرلمان سياسيا، أو تقزيم صورته جماهيريا من خلال مقاطعة المشاركة فيه، والاكتفاء بتوجيه النقد اللاذع له كمؤسسة، وأعضائه كنواب منتخبين. إذ ينبغي التعامل مع البرلمان كركيزة أساسية، لا ينبغي التفريط فيها، من صرح العمل السياسي، الحاضن لجميع القوى المتصارعة في المجتمع. ومن الخطأ حصر الصراع في دائرة ضيقة تضع الدولة ومؤسساتها في خندق، والبرلمان في خندق آخر مواجه.

ب- تحويل البرلمان إلى ساحة مناكفة بين القوى التي تضع نفسها في خانة المعارضة من جانب، والدولة وإداراتها من جانب آخر. فمثل هذا الدور هو أسوأ دور يمكن أن يوكل للبرلمان، ويزداد الأمر سوءا عندما يسود ذلك أذهان ممثلي القوى المعارضة، ويتحكم في سلوكها، مهمة واحدة فقط، هي تصيد، أخطاء الدولة، وتكبير صورة كبواتها، بدلا من تشخيصها من أجل معالجتها وتقويم اعوجاجها. والفرق شاسع بين المدخلين، ونتائج كل منهما مختلفة، بل ربما متضاربة.

ج- تقزيم دور البرلمان بقلب أهدافه، كي ينتقل من غرفة لسلطة تشريعية كفؤة، إلى نافذة للوجاهة، أو كوة للتباهي، او قناة لأداء المطالب الخدمية للمواطن. وما هو أدنى من ذلك عندما يصبح البرلمان قناة لتحقيق الأهداف الفئوية الضيقة، طائفية كانت تلك الأهداف، أو حزبية، او حتى الوطني منها، عندما يتحول الوطن إلى مجرد جثة هامدة بحاجة، تتنازعها تلك الصراعات الفئوية الضيقة الأفق، المحدودة الأهداف.

د- تحجيم دور البرلمان، عندما يزحف رويدا رويدا نحو دوائر منظمات المجتمع المدني، ويضع نفسه بديلا لها، أو ينصب نفسه، حتى بشكل غير واع، راع لها، أو ولي أمر يقود حركتها. فتجارب الأمم المتحضرة الناجحة تثبت، بما لا يقبل الجدال، أن حركة كل منهما: البرلمان ومنظمات المجتمع المدني، مستقلة عن الأخرى، مع التشديد هنا على سعة المساحات التي تتقاطعان فيها، وتعدد القنوات التي تتكاملان من خلالها.

هذه النقاط تحدثت في مجملها عن الصورة التي ينبغي تحاشي رسمها لأي برلمان تقع على عاتقه بناء مجتمع متحضر يتكامل فيه مع سلطات البلاد الأخرى من تنفيذية وتشريعية. والوصول إلى ذلك هو القوة الوحيدة القادرة على نقل البرلمان إلى رحاب الفضاء السياسي الوطني.