أمير البيان وشاعر عُمان الشيخ عبد الله الخليلي (1 -2)

سعيد الصقلاوي
إنّ العمل الإبداعي وخاصة ذلك الذي تكون معماره الكلمة - كالشعر- تكتنفه أمور بالغة الصعوبة تتصل بطبيعة العمل الإبداعي وبواعثه، وتتعلق بثقافة الكاتب وبيئته ومنهجه الذي ارتضاه، وترتبط بحاسية الناقد النفسية، والذوقية، وخاصة الوعي المرفود بأدوات علمية مساعدة تمكنه من النظر إلى ماهية العمل الإبداعي، وسبر مكنوناته، والتعرُّف على فنه وأصوله، ومن ثَمَّ فإن طبيعة هذا العمل الاستثنائية تتطلب النظر إليه بمجهر المعرفة الحقة، والوعي المدرك، والنفس الخالصة المجردة. وذلك بغرض اكتناه أسرار الكلمة و"الوقوف على جانب من خصائصها الدقيقة" ومحاولة تبين خيوط شبكة العلاقات بها والتعرف على بعض قوانيها.
إن كل هذا التعرُّف قد يساعد أيضاً على كشف جوانب من ملامح العمل الأدبي، وأضاءة "جوانب من أسرار تطوراته الماضية والآتية كما يفيد امتلاك الأدوات المساعدة ومحاولة استخدامها، في استشفاف الدلالات المتناثرة في جنبات العمل الأدبي، واستشراف بعض خطواته المستقبلية المحتملة.
والمبدع حينما يتسنى له الشروع في عملية إبداع الجنس الأدبي، أو تتهيأ له ظروفها، فإنه يبذل جهداً كبيراً من المعاناة الذاتية والفكرية، حتى يتسنى لهذا العمل ولادة طبيعية، تمكنه من مصافحة النور. ومن ثم فإن توازنا نفسيا، وفكريا يبنغي أن تعمر به نفسه الناقد قبل أن يدلف إلى عالم العمل الأدبي الذي بين يديه. ولذا فعليه أن يبذل جهداً موازيا - أن لم يكن أكبر قدر- للجهد الذي بذله المبدع سواء كان شاعراً أو كاتباً. وهذا الجهد المبذول ينبغي أن يتغلغل إلى أعمال العمل وأن يغوص بين موجاته لا أن يكتفي بالنظر إليه من على الساحل أو بالسباحة فوق سطحه. فلكل عمل حالته الخاصة المتصلة ببيئة المبدع والمنتج، ولكل بيئة خصوصية تحتفظ بتفاصيلها وقسماتها، كالبيئة العمانية، وتتطور بحسب توافر أسباب التطور، وتتلاقى مع غيرها، وتتشابك بقدر ما تتوافر لديها من جسور التواصل، وأدوات الأتصال الثقافي. فمن منظور البيئة الفاعلة بمعنى المؤثرة في المبدع نمد بصرنا وبصيرتنا إلى عالم الشيخ الشاعر والكاتب عبد الله بن علي الخليلي- باعتباره مبدعا معاصراً، ونتلمس ملامح فكره في انتاجه الغزير.
ولذا فإن هذه المختارات ـ-على الرغم من إيجازها وقصرها في هذا العدد المحدد ـ  تسعى جاهدة إلى التعريف بالشيخ الشاعر ومكانته في نفوس الوطن والمواطنين العمانيين. وتسعى الى القاء الضوء على ابداع شاعريته. وتتيح للقارئ فرصة التعرف عليه وتفتح نوافذ للتعرف على شعره ولغته وأسلوبه وفكره ومبادئه. وتسعى كذلك إلى التعريف بالبيئة الثقافية والاجتماعية والطعبية التي أحاطت الشاعر بمؤثراتها المختلفة، ووجهت فكره ومنهجه، وأسلوبه، كما أنها تهتم بتسليط الضوء على جوانب من الملامح المعاصرة في إنتاح هذا الشيخ الجليل.
ينحدر الشيخ عبد الله بن علي من سلاسة اتخذت العلم غاية ومطلبا، وآمنت بالدين الإسلامي منهجا، وصدقت بالعمل مبدأ. فهو من الناحية التاريخة والدينية والأدبية ينتمي إلى أسرة أنحدر منها من تولى أمامة عمان، كجده الصلت بن مالك الخروصي والخليل بن شاذان الذي تنسب إليه الأسرة الخليلية. وكان الشيخ سعيد بن خلفان علامة عصره وأماما دينيا شهد له علماء دهره، وأكدت ذلك مؤلفاته المختلفة، وكان أيضاً قاضياً للأمام عزان بن قيس البوسعيدي (1869- 1871م)، فضلاً عن أن جده الشيخ عبد الله بن سعيد كان بالإضافة إلى علمه الديني أديبا، شاعراً، وعمه الرضي الإمام محمد بن عبد الله كان أمام عمان في الفترة من عام (1238هـ- حتى عام 1353هـ). أما أبوه كان زعيما وذا حظوة لدى كل من سدة الأمامة بزعامة الأمام محمد بن عبد الله الخليلي وبلاط السلطان سعيد بن تيمور رحمه الله وكان من بين نساء أسرته العلامة الفقيهة والمصلحة شمساء الخليلي.
إذن في وسط هذه البيئة المحافظة وزخم هذا المناخ الثقافي الخاص ولد شاعرنا في سمائل عام 1922م. وفي مجال الحديث عن نسبه، فقد ذكر أخوه الشيخ سعود بن علي الخليلي أنه: "ينتمي إلى ثلاثة وعشرين أماما من عشرته من بينهم أربعة من خاصة آل بيت الخليل، وقد اكتفى بذكر عدد الأئمة دونما الشروع في بيان التفاصيل أو تقديم معلومات يمكن أن تساعد القارئ في تلتمس أثر موروث الرحلة الأسرية على الشاعر وإنتاجه.
إلا أن الشيخ سالم بن حمود السيابي يذكر في نفس الديوان (وحي العبقرية) نسب الشاعر بالتفصيل حيث يقول أنه "عبد الله بن علي بن عبد الله بن سعيد بن خلفان بن أحمد الخليلي" يتصل نسبه إلى الإمام الخليل بن عبد الله بن عمر بن محمد بن الإمام الخليل بن العلامة شاذان بن الإمام الصلت بن مالك بن بلعرب الخروصي، ثم يواصل تفصيل جزئيات النسب فيردف قائلا: "أن جده أحمد بن سعيد أمام العلم وشاعر الحقيقة, وناظم الأثر، وأما جده الشيخ الرئيس عبد الله بن سعيد شاعر الركب العربي الحر.
رحلة مسيرة نشأته لا تتوقف عند هذا الحد بل استمرت في التواصل منذ نعومة طفولته حينما أوكل به مؤدب خاص يقوم على تأديبه علميا ودينيا قبل أن يحتضنه عمه الإمام محمد بن عبد الله الخليلي. ومما يذكره في هذا المجال الشيخ سالم بن حمود السيابي هو أن الشاعر "كان في صغره بعيداً عن والده، وأنه أي والده قد أوكله إلى أسرته الموجودة في سمائل" وقد يكون لذلك أثر فاعل في انكباب الشاعر على التحصيل العلمي كي لا تشغله هموم التفكير بالوحدة أثر ابتعاد الوالد.
وما أن شبّت مداركه وأصبح قادراً من الناحية النفسية ومهيأ من الناحية العقلية على الأستزادة من منهل العلم أرتحل من سمائل إلى جوار عمه الأمام رضي الله عنه. وهناك- أي بجوار عمه، تدرج هذا الشاعر في مراحله العمرية من الطفولة إلى الشباب وتلقى صنوف العلوم الدينية كعلوم القرآن على المقرئ الحاذق زاهر بن مسعود الرحبي وعلوم العربية على يد أستاذها النحوي الكبير حمدان بن خميس بن سالم اليوسفي ثم يضيف أخوه الشيخ سعود: "أنه من بين الذين قرأ عليهم الشيخ العلامة حمد بن عبيد شامس السيابي، قد كان يلقب بداهية العلماء وكذلك الشيخ العلامة سالم بن حم  ود بن شامس السيبابي، قد كان قاضياً، وفقيهاً، وشاعراً، ومؤرخاً له عدة مؤلفات، أصدرت عدداً منها وزارة التراث القومي والثقافة لكن الشيخ سعود يضيف أن هذه الفئة من العلماء كانت تروي بالمعرفة مدارك الشاعر وهو خارج الحصن وهذا ما يدفعنا إلى استشفاف بأن داخل الحصن- حيث يقيم الأمام- كان هذا الشاعر أيضاً يمتح من معين علم عمه، ومن أرائه الخاصة في الحياة، والناس والدين، والعلم، ومن تجربته التي صبغتها حنكة السنين في التعامل مع بني البشر، والأهتمام بأفراحهم وأتراحهم فاكتسب خبرة من إمامه علمته كيف يجب أن يعمل، وكيف يجب أن يعيش.
ويشير السيابي إلى أثر الأمامة في رسم ملامح شخصية الشاعر وتكوين الإساس الثقافي لها وهو أساس مبني على مرتكزات دينية حيث يقول: "نشأ ابن أخيه هذا وليد الأمامة، ورضيع لبانها، متقلبا على أحضانها مستنيرا بهداها، راشفا من سلافها وحميّاها، ثم يؤكد على مرتكز آخر وهو الموروث الأدبي سواء كان ذلك موروثا عمانيا، أو عربيا فيقول: "فلم يزل بين عالم، وأمام، وزعيم، وقد ارتسمت في وعيه صور الأدب وعلق في ذهنه شعر العرب".

تعليق عبر الفيس بوك