عندما تكون القيادة هي القدوة

 

زاهر المحروقي

عِنْدَما تكون القيادة في أيِّ مكان في العالم هي القدوة في كلِّ شيء، فأنَّ الناس يتقيَّدون بالنظام ويتمسَّكون بالأخلاق؛ لأنهم يعلمون أنَّ الذين يدعونهم إلى تطبيق شيء ما، يطبِّقونه هم أولاً على أنفسهم؛ ومن هنا جاء المثل العربي: "الناس على دين ملوكهم"؛ فإنْ أحسن الملوك أحسنوا، وإنْ أساء الملوك أساؤوا.

أَضَع هذه المقدِّمة لأقول أنَّ  قضية القدوة هذه شغلتْني فترة طويلة من الزمن، عندما كُنت أقارن بيننا وبين الآخرين، وأتساءل: كيف نجح الآخرون وفشلنا نحن؟ وأذكر أنَّ نقاشًا جمعني مع صديقين عزيزين هما د. يعقوب بن محمد الوائلي وسالم بن مبارك المحروقي حول هذه النقطة. فكان رأي سالم أننا نتكلَّم كثيرًا عن الفساد، ولكن إذا أتيحت لنا الفرصة سنكون فاسدين مثل الآخرين، وهو رأيٌ لا أستطيع أن أرفضه بتاتًا؛ فكثيرٌ من الوقائع أثبتت صحته؛ لأنَّ ما يحتاج إلى الإصلاح هو المنظومة بأكملها؛ فيما كان رأي الدكتور يعقوب أنَّ الفساد لم ينتشر إلا لأنَّ المثل القائل "مَن أمن العقوبة أساء الأدب" قد أخذ طريقه في المجتمع، فكان ذلك تشجيعًا على انتشار الفساد.

أعادني إلى ذلك النقاش مقالٌ صغيرٌ في عدد حروفه، لكنه كبير في مضمونه، كتبه أدهم الشرقاوي تحت عنوان "تغريدة الاستقالة" بجريدة "الوطن" القطرية، عدد 8 أغسطس 2017، ذكر فيه أنَّ وزير الصحَّة السويدي جابريل ويكستورم قدَّم استقالته إلى رئيس الحكومة، ثمَّ بعد ذلك كتب تغريدة في تويتر، وضع فيها صورة لستة أقلام حبر، وكتب: "أعدتُ أقلام الدولة. شكراً لثلاث سنوات حافلة بالأحداث وخدمة الناس". يُعلق الشرقاوي على هذه التغريدة بالقول إنَّ "الذي يدمي القلب، أن تجد وزيرًا هناك يعيد ستة أقلام للدولة لأنها ليست من حقه؛ بينما تجد وزيرًا هنا يأكل البيضة والتقشيرة. والذي يحزُّ في النّفس أن تُعزَل رئيسة وزراء كوريا الجنوبية لأنها وظَّفت صديقتها متحايلةً بذلك على بروتوكولات النزاهة وتكافؤ الفرص في التوظيف، بينما الباب السحري للحصول على الوظائف عندنا هو: أنا من طرف فلان. أنَّ القصة ليست قصة أقلام لا تتعدى قيمتها الدولاريْن؛ أنَّ القصة هي الباعث على هذا التصرف، والمبدأ الذي خلفه، والقيمة الأخلاقية التي دعت إليه؛ وهذا ما ينقصنا نحن، أن نقارن بين تصرفاتنا أفرادًا وحكومات وبين القيم والمبادئ التي نحملها".

إنَّ وجود القدوة، ومبدأ عقاب من أساء التصرف، كفيلان بأن تكون المسألة مستقيمة لا اعوجاج فيها. ولم تنجح الدول الغربية إلا لأنها طبَّقت مبدأ "القانون فوق الجميع"، وهو أصلا قانونٌ إسلاميٌّ. فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"؛ وهذا قانونٌ لا يجامل أحدًا بسبب القرابة أو النسب، وإنما يُطبَّق على الجميع؛ تركه المسلمون جانبًا فأصبح من يسرق قوت الشعب يكَّرم بالأوسمة والنياشين، فيما إذا سرق الفقير ليقتات الخبز لعياله يُحاكم، حتى اختلط على الناس مفهوم كلمة "الحرامي". والغربُ بصفة عامة رغم الأخطاء والقصور، إنما هو يطبِّق الإسلام في كثير من قوانينه وفي الأمانة والإنتاج، وهذا ما يراه الدكتور محمد راتب النابلسي عندما يقول: "لا يُنكَر أنَّ كلَّ إيجابيات العالم الغربي القوي، إنما هي إسلامية؛ هم يعبدون المال من دون الله. كسبُ المال يحتاج إلى طاقة بشرية عالية جدًّا؛ فبينما تجد في بلاد نائمة، الإنسانَ يعمل من سبع عشرة دقيقة إلى سبع وعشرين دقيقة في اليوم، تجد الناس هناك يعملون من ست ساعات إلى ثماني ساعات بالتمام والكمال، لذلك تجد شركة قوام عمَّالها أربعون ألفاً، أرباحها تساوي الدخل القومي بأكمله لشعب يعد سبعين مليونًا".

لا يمكن أن تقيم أيُّ دولة مجتمعًا مثاليًّا دون أن تكون المنظومة كلها صالحة تتمتع بالقدوة الحسنة، ويتساوى الجميع في تطبيق القانون، وينال المحسن ثوابه والمسيء جزاءه. ولا يمكن للمواطنين أن يحترموا القوانين إذا كانت هذه القوانين تطبَّق على الضعيف دون القوي، حتى وإن تم التركيز على ذلك عبر خطب الجمعة والدروس والمواعظ، وعبر برامج إعلامية تستهلك وقت الإرسال الإذاعي والتليفزيوني، لأنها ستكون مجرد طقوس تؤدى في الجوامع، ومجرد كلمات تقال عبر وسائل الإعلام، عكس الأمر إذا تم تطبيق القانون على الكل. ومن هنا ربما نعلم كيف نجحت سياسة لي كوان يو مؤسِّس سنغافورة في القضاء على الفساد، عندما سُئل ما الفارق بين سنغافورة ودول العالم الثالث الأخرى؟ فكان جوابه: "نحن نحارب الفساد من قمَّة الهرم؛ وهم يمسكون اللصوص الصغار ولا يقتربون من المفسدين الكبار"، وهو نفسه صاحب مقولة: "إنَّ القضاء على الفساد يشبه تمامًا تنظيف الدرَج، فهو يبدأ من الأعلى إلى الأسفل".

قُلت لنفسي وأنا أشاهدُ صورة السجين إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق وهو في المستشفى، وقد بدا ضعيفًا وهزيلا لا حول له ولا قوة، مرتديًا ثوب المرضى ويأكل مستخدمًا أدوات بلاستيكية، إنَّ خطوة معاقبة شخص مثله بالسجن إثر اتهامه بقضايا الفساد، تحمل في طياتها روح البقاء والاستمرار؛ فقد قضى الرجل ستة عشر شهرًا في السجن، إثر إدانته في قضايا تلقي رشا في إطار مشروع عقاري ضخم، عندما كان رئيسًا لبلدية القدس، وصدرت بحقه على إثرها أحكام بالسجن لمدة سبعة وعشرين شهرًا، قضى منها تلك الأشهر الستة عشر قبل أن يُفرج عنه.

بالتأكيد لا نتَّفق مع إسرائيل من قريب أو بعيد، ولكن إذا قارنَّا الحُكم الصَّادر ضد إيهود أولمرت؛ لأنه تلقى رِشا في مشروع عقاري واحد، بينما ما يحصل لدينا في الأوطان العربية من رشا، وعمولات الصفقات، والفساد في كلِّ القطاعات وفي كلِّ شيء، ألا نتمنّى أن تكون مثل تلك الأحكام قدوة لنا؟! إننا فعلاً نحتاج تطبيقَ مبدأ القانون فوق الجميع، وعندها لن يسيء أحدٌ التصرّفَ لأنَّ تطبيق قانون العقاب سيكون له بالمرصاد.