ما لا يراه قائد المركبة

زاهر المحروقي

في إحدى المرات قال لي أحد المسؤولين: "أشبِّه المسؤول بسائق السيارة؛ إذ عليه أن يركز انتباهه إلى الأمام، وأن يلتفت يمينًا ويسارًا، وينظر إلى المرآة ليرى ماذا يجري خلف السيارة. بمعنى أنَّ رؤية السائق هي الأدق والأصوب، فما يراه قد لا يراه الراكب الذي يهتم فقط بالوصول إلى هدفه". كان تعليقي أنَّ هذا قد يكون صحيحًا، إلا أنَّ باستطاعة الركاب تقديم مساعدة كبيرة للسائق، خاصةً إذا كان لا يُلقي بالا بالأنظمة المرورية المتَّبعة، ويستهتر بالشارع والركّاب والمارة، وليس لديه الإلمام التام بالسياقة، وكثيرًا ما ينشغل بالهاتف النقال؛ وكم هي كثيرةٌ الحوادث التي تسبَّب فيها السائقون وأزهقوا أرواحًا بريئة، لأنهم لم يأخذوا بنصيحة الركّاب، فكانت أخطاؤهم قاتلة، وهذا ينطبق تمامًا على المسؤولين. وأضفت بأنَّني أرى الصورة بمنظور آخر، فهذا المسؤول يُشبه تمامًا رجلا في قمة عالية يُشرف على الشوارع من مكانه العالي، ويرى التقاطعات والدوارات وإشارات المرور، ومن خلال هذا الموقع يستطيع أن يتّخذ القرار المناسب في تخطيط أيِّ حادث، لأنّ موقعه هذا قد ساعده على الإلمام بالأوضاع واتخاذ القرار المناسب؛ والخطأ هنا أن يتم اتخاذ قرار خاطئ، رغم كلِّ المرئيات التي لديه والتي لا تتوافر للناس العاديين. ولكن الحوار مع ذلك المسؤول لم ينته وقتئذ، فقد كان رأيُه أنَّ الناس دائمًا تبالغ في الانتقاد، ولمَّح إلى ما معناه أنهم جاحدون ولا يشكرون النعم، وغير ذلك من الكلمات التي يتم ترديدها عند كلِّ نقاش يهدف للمصلحة العامة؛ إلا أنَّ المفاجأة كانت عندما لقيتُ الرجل بعد سنوات وقد ترك منصبه، فإذا بي أجد أنَّ حديثه لا يختلف عن حديث أيِّ مواطن، بعدما ترك مقود القيادة لغيره وأصبح راكبًا عاديًّا، بل وجدتُ عنده انتقادات لاذعة لقائدي المركبات ولمن خَلَفَه في كرسيِّه، وكأنّ كلَّ ما فعله هو كان صائبًا.

ونقاشٌ كهذا، يطرح الكثير من الأسئلة؛ منها مثلا: هل ولاء المسؤول هو لمنصبه فقط، ومن ثم فإنَّ وطنيته تتحدَّد بمدى المنصب الذي تولاه، وإن ذهب المنصب ذهبت الوطنية؟! وما الذي يجعل المسؤول يتشبَّث برأيه ولا يريد أن يسمع آراء أخرى؟! وهذا السؤال يجرُّنا إلى سؤال آخر وهو: هل يبني المسؤول آراءه بناءً على دراسات وأبحاث؟ أم أنه مجرد مزاج أو رأي ارتآه بنفسه ففرضه على الكلِّ حتى وإن كان خطأ؟ وما الذي يجعل المسؤول بعد أن يترك المنصب، يرى ما يراه المواطنون ويتوافق مع آرائهم، بمعنى: هل الخلل في مُتطلبات المنصب؟!

وبعد هذه الأسئلة، يأتي السؤال الأبرز وهو: هل المواطنون لا يزالون قاصرين حتى الآن، ولا يعرفون ما يضرهم وما ينفعهم، ولا يعرفون أين تكمن مصلحتهم ومصلحة بلادهم؟ ثم أليس من حقّهم أن يُبدوا ملاحظات لقائدي المركبات حتى يضمنوا سلامتهم وسلامة وطنهم؟!

من خلال مُتابعتي لما يُطرَح من نقاشات عبر وسائل التواصل، ومن خلال الردود التي تصلني من بعض الأصدقاء حول مقالاتي؛ أرى أنَّ فكر المواطن العماني هو فكرٌ راق جدًّا، ولديه حسُ الوطنية والغِيرة، أكثر من حسِّ بعض المسؤولين -وما علينا من بعض ثرثرات المراهقين في تلك المواقع- ومن ذلك أنَّ الكثيرين تناولوا مسألة الاستيراد المباشر، ورفضوا أن تكون عُمان بعد مرور سبعة وأربعين عامًا على نهضتها الحديثة لا تزال تستورد احتياجاتها عن طريق دول الجوار، وركزوا على الفواكه، فإذن الكلُّ يتفاجأ أنَّ اجتماعًا عُقد بين الجانبين لتنظيم الاستيراد المشترك. كما رفض الكثيرون مسألة بعض الاستثمارات، خاصة من دول الجوار، وأنَّ من شأن ذلك أن يضر بالبلد مستقبلا مع أيِّ هزة، إلا أنَّ الذي حدث بعد ذلك هو عكس هذا تمامًا، إذ نُشر أنَّ شركة من دولة مجاورة ستشرف على نظام إلكترونيٍّ لإدارة الوثائق ورقمنة السجلات في ميناء صحار والمنطقة الحرة في عُمان، وهو ما رآه المغردون خطأ.

لقد انتشرتْ المجمعات التجارية التي يملكها الأجانب ومنها لتجار من دول الجوار. أليس بمقدور تجارنا أن يفتحوا مجمعات تجارية؟ وهل الاستثمار هو بناء منازل على الشواطئ وبيعها للأجانب؟ وما فائدة ذلك للاقتصاد الوطني على المديَين القريب والبعيد؟!

حقيقةً لأعترف بذلك -وهذا ليس عيبًا- فأنا لا أدري كيف تجري الأمور، ولمصلحة مَنْ؟ فالذي أراه أنَّ آراء المواطنين العمانيين تسبق آراء الحكومة بكثير، وأرى أنّ غيرتهم على بلادهم تسبق غيرة المسؤولين بمراحل، بل أرى أنَّ هناك خللا ما جعل من الكل؛ سواء كانوا مسؤولين أم مواطنين -حسب تعبير المسؤول السابق "السواقين أم الركاب"- في حيرة من أمرهم، حيث تبحث عن أسباب الخلل فلا تجد الإجابة؟ وتبحث عن الحلِّ فلا تجده. وهذا منطقي بما أنَّ الخلل غير معروف؛ والأسوأ أن تبحث عمن يملك الحل فلا تجد. وهذا بالتأكيد مُؤشر خطير على المستقبل. أيُعقل أنَّ المواطنين يقدِّمون اقتراحات ويرفضون مشاريع يرون أنها تمس استقلالهم وتهدِّد كيانهم ومستقبل وطنهم، فيتفاجأون بغير ذلك تمامًا؟ وكأنَّ أحدًا يقول لهم "غصبًا عنكم"!. إنَّ نفسي الأمَّارة بالسوء، تحدِّثُني بكلام لا أستطيع البوح به حتى لا أقع في المحظور.

خلاف المواضيع الاقتصادية -وهي مهمةٌ جدًّا؛ إذ من يسيطر على اقتصادك يسيطر على قرارك حاضرًا ومستقبلا- فهناك قضايا أخرى كثيرة تناولها المغرِّدون العُمانيون وقلوبُهم تعتصر ألمًا؛ مثل قضية السطو على التاريخ العماني، والعبث بالآثار العًمانية في الشرق الإفريقي. كنَّا نتمنى أن يكون هناك قرارٌ رسميٌ وحاسمٌ ضد العبث بتلك الممتلكات، كما كنَّا نتمنى أن تكون هناك قرارات حاسمة في كثير من الأمور، بدلا من ترك الرد للعامة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

إنَّ مبدأ التسامح الذي تغنَّينا به سنوات طويلة، هو الذي جرَّأ الآخرين علينا. ولا ينبغي الرُّكون إلى المقالات الانفعالية والثورية والإنشائية للرد على تلك الخطوات؛ فالحلُّ يكمن في الردع الحكومي، بعد أن مارست مؤسساتنا المختلفة سياسة التسامح بحجة الوسطية والاعتدال؛ وفي ظني أنَّ الملف الإفريقي حساس ولا يقل عن أيِّ ملف آخر، وهو الملف الذي أهملناه كثيرًا. وقد حان الوقت أن نعلم أنّ قائدي المركبة ليسوا فقط المسؤولين عن سلامة واستقرار الوطن، بل هي مسؤولية الجميع، فما طرحه العمانيون من آراء، هي تخدم الأمن القومي الوطني. وبما أنَّ هناك بقية من الناس تحمل هموم الوطن؛ فهذه نقطة تُحسب لها. وأمام الاحباطات المتتالية قد تختفي هذه البقية؛ فما تدمَّرت الأوطان إلا بعدما انتشر بين الناس مبدأ "اللهم نفسي نفسي".