العبودية في ثوب التودُّد!

هلال الزَّيدي

كان التحرُّر من العبودية أوَّل مُؤشِّرات التقدُّم الإنساني؛ وذلك بإحقاق الحق والاعتراف بالآخر في وجوده وكيانه مهما كان وضعه الاجتماعي، والعبودية بدَرْوِها كانت القيد الذي حزَّ في منظومة المجتمعات التي تشكَّلت "مُصَادفة" أو لظروف المرحلة التي يمر بها الكون، فالرق هو أحد أشكال العبودية التي أودت بالمستوى الإنساني ودفعت به إلى الحضيض، إلا أن الإسلام كدين ومعتقد جاء وحرَّر الإنسان من أعتى صنوف العبودية، وساوى بين مُختلف الطبقات الاجتماعية، وإنْ جازَ لنا التعبير فهو قضى على الطبقية وجعلها أمة واحدة وكيانا واحدا بلغتْ أوجها وتحضُّرها العميق، إلا أنَّه ومع مُرور الزمن عادتْ مَسْألة العبودية واسترقاق البشر إلى الظهور في أشكال مُختلفة تمامًا عن تلك التي كانت معروفة في العُرف التاريخي.

البحثُ عن الرزق وتجليات الخوض في إيجاد مصدر لحياة كريمة، أعاد إلى الحياة مسألة العبودية من جديد لكن بتسميات أخرى، ودليل ذلك ظهور الأصوات التي تنادي بحقوق العامل في مقر عمله والتي رفعتها الكثير من المنظمات الدولية، وسنت حولها الشرائع والقوانين، ووضعت العقوبات التي تحاول أن تُخفي أشكال التحكم في الكيانات البشرية تحت حاجتها لعمل يكفل لها عيشها الكريم، لكن لم تستطع تلك القوانين الوضعية أن تقف في وجه العودة إلى مربع العبودية، ممثلة في استحكام مُتَّخذ القرار سواء كان رب العمل أو متخذ قرار وُكِل إليه أمر مجموعة من الأفراد؛ لذلك شكَّل هذا التحكم تحدياً كبيراً في كثير من مجريات الأمور؛ فهناك قصص واقعية تقع في إطار فرض السيطرة والعزف على وتر حاجة الناس؛ مما دفعني لإيقاظ مشكلة العبودية التي لازمت البشر، فربما هي فطرة إنسانية تحتاج تقويمًا وشرائع نافذة تُقلِّص "الأنا البشرية" وترجعها إلى جادة الصواب.

القصص كثيرة وما نحتاجه هو العبرة منها ووضعها في مثلث الاهتمام والتمحيص، فكم من كِيَان بشري يحاول أن يستغل نفوذه والسيطرة على منافذ اتخاذ القرار في كثير من المؤسسات، مع إصراره على الالتفاف على القوانين، والبحث فيها عن ثغرات، وهذا ما يتم استغلاله في توظيف الكوادر؛ حيث إنَّ الجميع يتحدث عن المحاباة التي يتم بها اختيار الموظفين، مع وجود سلسلة من الإجراءات الصحيحة في شكلها، لكن مضمونها يفتقد إلى العدالة والمساواة عند الاختيار؛ لأنَّ المعايير التي يتم بها الاختيار معايير تقاس بـ"القبلية والمناطقية" إلى جانب البحث عن الشخوص المهزوزة التي تُقبل الأيادي حتى لا تختلف مع المعمِّرين في مناصب اتخاذ القرار، وهذا أدى لظهور الترهُّل وقلة الإنتاجية.

رُبما هُناك من يختلف معي في هذا الطرح، مُعوِّلا على عدم إحداث شَرْخ اجتماعي يتنامى مع مرور الزمن؛ لذلك فالقضية هنا غير معممة، وإنما ظاهرة تحتاج إلى بث المعرفة حولها وتنبيه من يستحلون حاجة الأفراد؛ حيث إنَّ إحكام السيطرة في توزيع المناصب تحت ذريعة البحث عن الأنسب هي اجتهادات فردية تؤطرها الدوافع الشخصية التي يبني عليها مُتخذ القرار اختياره، مما يدفع المحتاجين للولوج إلى مستنقع الترجي والتودُّد إلى تلك الفئة، ليحظوا بفرصة أو رضا يُحقِّق مبتغاهم، هذا مع ضرورة وجود تزكية من أسماء ومناصب لها ثقلها المؤسسي؛ بمعنى: أن "فلان جاء من طرف فلان"؛ لذا وجب الاهتمام به أو أنه حقَّق شرطًا من شروط القبول التي أوْدَت بالكثير من الكفاءات إلى "البطالة".

... إنَّ ما يثير الضَّحك هو استماتة العديد من أصحاب القرار في تنفيذ أجندتهم وتطبيقها على أرض الواقع؛ كونهم يشكِّلونها في زي المشروعات التي ستنطلق بالمؤسسة إلى مصاف العالمية، مع تواطؤ المسؤول معهم أو أنهم يمارسون عليه الدجل، أو أنه ضعيف لا يقوى على فهم ما يدور حوله أو لعلها أسباب تقوم على توزيع الأدوار وحصص الاستحواذ لتغييب الكفاءات ودفعها إلى الهجرة، ولعلَّ تلك التصرُّفات واضحة وضوح الشمس عند من يُحْسِن النظر فيها، إلا أنَّ انتشارَ ثقافة الصَّمت جعلتْ تلك الفئة تتمادى في غَيِّها إلى أجل غير معلوم.

لقد قابلتُ الكثيرَ من الأشخاص الذين تعدَّت تجاربهم في التنافس على الوظائف عن العشر تجارب، مع وجود علامات استفهام لديهم حول المعايير المطلوبة للظفر بفرصة وظيفية واحدة، هذا مع تأكيدنا على انطباق الشروط المتعلقة بالمؤهِّل والخبرة عليهم؛ لذا فهم يتساءلون عن الورقة الرَّابحة التي تجعلهم مقبولين عند ذلك المتسيّد والمتحكِّم في كل شيء والقادر على قولبة الأوضاع حسب قناعاته الشخصية. وعليه؛ فمن المهم جدًّا أن يُراعي من تكون بيده عِصْمَة الاختيار اللهَ في تعامله الإنساني حتى يعلو صَوْت المصحلة العامة.

-----------------------------------

همسة:

عدد سنوات الخبرة ليس المؤشر الذي يجعل الإنسان قائداً؛ فمعيار القيادة منهج قائم على فهم العمل من حيث المهنية البحتة، والتي لا تقبل المساومة على مستقبل العمل المهني المعتمِد على المؤهل العلمي.

abuzaidi2007@hotmail.com