الموروث الثقافي وخطر التلاشي

حَمَد العلوي

لقد كَان الناس في الماضي يتناقلون موروثهم الوطني بتعاقب الأجيال؛ فيتعلمون موروثهم من العادات والتقاليد بالمعايشة الوجدانية؛ فهناك تعليم تقوم به الأسرة للنشء، وهناك تعلُّم جماعي من خلال التطبيق العملي الجماعي في المناسبات؛ فعلى سبيل المثال: كان الأب أو الأخ الأكبر أو حتى العم والخال يعلمون الأبناء كيف يمسكون البندقية، وكيف يستخدمون السلاح في رماية الأهداف، أو كيف يرزفون بالبندقية، وكيف يطلقون النار في الهواء في الأعراس والأعياد، وأيضاً كيف يطلقون النار كـ"لقية" للضيوف الأعزاء القادمين، أكان ذلك القدوم من الجوار القريب، أو كانوا آتون من الطرف البعيد، فالذي يحدد مكانته التشريفية النفوس الطيبة، فيخرج وفد الاستقبال من رجال البلد أو حتى كلهم، فيرتدون ملابسهم النظيفة، ويتمنطقون عليها بمحازم الذخيرة على أقل تقدير مع البنادق، فيسيرون إلى أطراف البلدة للقاء الضيوف، تعبيراً عن الفرح والترحيب بمقدمهم، ومن لا يعرف هذه الطريقة التقليدية، فقد يظن أنَّ هناك اشتباكًا بالسلاح يحدث بين غزاة ومُدافعين عن البلد؛ لأنَّ الضيوف أيضاً يردون التحية بأحسن منها، وربما يعود المستقبلون بالسير أمام الضيوف، ويغنون وينشدون "شلات حماسية ترحيبية" مُبالغة في حسن الاستقبال.

أمَّا اليوم، فهذا التقليد قد انتهى وتلاشى مع بدء الحداثة، ولكن الضرورة قد تحتم بين وقت وآخر القيام بشيء من هذا التقليد، لكن من الصعوبة بمكان أن تأمن خطورة السلاح في أيدي حامليه بلا وعي أو معرفة، ولأن حاملي السلاح أصبحوا لا يعرفون كمية الخطورة التي يشكلها هذا السلاح في يد من ليس له علم في التعامل معه، خاصة وأنَّ الأشياء التي تعلو رأس مطلق النار ليست جبالاً وأشجاراً وأشجار نخيل قد تكون محملة بالثمار، وربما تَوَافق وجود إنسان على غدورها لترتيب ثمارها، فقد زاد على هذه الاحتمالات اليوم أسلاك هاتفية، وأسلاك كهربائية، وأبراج اتصال وأبراج إعادة بث لاسلكي أو تليفزيوني، وربما طائرات تحوم في الأفق القريب، إذن مطلق النار الذي يعرف يصوب بندقيته في الفضاء الآمن لم يعد موجوداً، وهذه المخاطر تحتاج إلى هذا الشخص الذي يستطيع تقديرها بقدرها، لأن جيل اليوم صار يهتم بالموضة ولعق البوظة، وهذا الإهمال يقترف ذنبه الآباء والمسؤولون في الدولة.

... إنَّ الموروثَ الوطنيَّ أصبحَ يتآكل بمرور الزمن، وإن الفجوة تتسع بين الجيل المخضرم، الذي عاش حِقب ما قبل السبعين، وعقود النهضة العُمانية الحديثة؛ فظلَّ يطوي في نفسه على بعض الثقافات من الموروث الثقافي الوطني، وقد آمن إن ذكره يعني التخلف والرجع إلى الماضي، وإن أي دور كهذا قد أزف زمنه، وعندما أتى جيل السبعين الذي فتح عينيه على واقع مختلف، وعالم متسارع الخطوات، لم تشنَّف أذنيه بسماع شيء من الموروث الثقافي العتيد، حتى لا ينكأ عليه بالتذكار ألم الماضي، والحقيقية ليس الماضي كله آلاماً، وإنما هناك مواقف جميلة ورائعة، عندما ترتبط بالشجاعة والرجولة ومكارم الأخلاق، إذن قد يُعذر جيل اليوم عندما يُترك ينظر إلى العادات والتقاليد، نظرة غير منصفة بل قد تكون ذميمة، فيتَّهم الماضي بالتخلف ومضيعة للوقت، وكأنَّ الهرولة وراء الماديات هي الأكثر واقعية ونجاعة، وقد أُغفل عن البال أن القيم التي حافظ عليها الأوائل، هي القيم التي أسرعت بقيام النهضة الحالية، فقد أتى المواطن إلى العمل، وبعضهم دون مستويات تعليمية نظامية معينة، لكن كانت نفوسهم محملة بالقيم الكبيرة، كالصدق والأمانة، والصبر والطاعة، والاحترام والأخلاق الحميدة، فغطَّت هذه المفاهيم والمعارف على ضعف التعليم العام، فكان للعمل قُدسية خاصة، ولا قدسية مساوية للمال، وكذلك النظر إلى كل الماديات الأخرى.

إذن، هُناك فارق كبير بين أصحاب الذكاء الوجداني في النفس من فريق الرعيل الأول، وأصحاب الذكاء العاطفي أو العقلي من الأجيال الجديد، التي أخذت تعطي قدراً أكبراً للماديات، وأنظمة الحواسيب الرقمية، وشبكات الإنترنت؛ فالرعيل الأول ينظر إلى القيم والعادات والتقاليد كموروث ثقافي عظيم، فينظر له على أنه مكون أساسي في شخصيته العُمانية، الموسومة بالانضباط الاجتماعي العُماني الخاص، أما الأجيال الحديثة المتعاقبة، فينظرون إلى القيمة المادية بقدر أكبر، وأن لا قيمة مهمة في القيم والعادات والموروث الثقافي الوطني؛ فالقيم المادية قيم ملموسة ومحسوسة وسهل قياسها، وتمثل له المكسب أو الخسارة. إذن بهذه الطريقة سنجد أنفسنا كمجتمع عماني متميز، أننا نفقد هذا التميز الخاص بنا.

وإننا ندخل في مقاربات مع الشعوب التي سبقتنا في التفريط بقيمها الوطنية والثقافية، وهذا يروق للبعض اليوم من جيل الشباب، عندما يجد نفسه مُحَاصراً بمقارنات وهمية، وظالمة في حق مجتمعه ووطنه، والسبب الرئيس أنه تُرك بدون تأسيس يصونه من أهوائه، ورغباته الشخصية العاطفية، فتجده كلما وجد ناعقاً في شبكة الاتصال، يُصغي إليه بإنصات ويصدقه، وذلك دونما وعي، أو إمعان لما يساق من معلومات مغلوطة، أو حتى مخططة بدقة للإضرار بوطنه من حيث يصعب عليه التحقق من صدقيتها؛ لأنَّ خلفيته الثقافية عن وطنه وتاريخه، تكاد تكون فارغة أو ضبابية، إذا لم يكن قد قرأ عنها في إعلام الآخرين صدفة.

إنَّ الضرورةَ الوطنية تُحتِّم سُرعة مُعالجة مشكلة تآكل الموروث الوطني، وأنْ لا تترك الدولة واجبها تجاه أجيالها الناشئة، لتسير بغير هُدى إلى المستقبل، وعندما أقول الدولة فإنَّي لا أعني الحكومة وحدها، وإن كان عليها يقع الدور الأكبر، بحكم قدرتها على التخطيط والتنفيذ، فإنَّ الموروث الوطني يجب أن ينقَّى من الشوائب، وأن لا يُعد منه "الزار والليوا" كما قال الشيخ العلامة مُحمَّد البطاشي، وكذلك الثقافات الوافدة من خارج الحدود، وأن يُعاد تدريس موروثنا الوطني في كافة المدارس وبمناهج رسمية في وزارة التربية والتعليم؛ لأنَّني كمواطن عادي، أرى دورًا جيد ًا يُنفذ في التعليم العام، ولكن لا أرى أيَّ دور ذات قيمة في التربية الوطنية، وإلَّا لما هرب الطلاب من على الأسوار العالية للمدارس؛ لأنَّ تقييم السلوك وإصلاحه لدى النشء، قد طرأ عليه شيء من التنازل في التربية المدرسية اليوم، إلَّا إذا خضع إلى أدلجة التسامح المبالغ فيها، وقد تحدث عن ذلك الزميل زاهر المحروقي في مقالة بالأمس؛ فالتنازل عن الموروث الثقافي الوطني سيُضعف الهُوية العُمانية، وقيم الاعتزاز بها، وعندئذ سيسهل تذويب هويتنا التي ينهش فيها الثعلب اليوم بغفلة منا، أو حتى بسبب الإمعان في التسامح.

أمَّا دور التربية البدنية والانضباطية والتعامل مع السلاح (ربما) والجدية والصبر وتحمل المشاق، والقدرة على تحمل المسؤولية، والانضباط في العمل، واحترام التوقيتات والمواعيد، والتخطيط للعمل اليومي، وتحليل المهام ووضع الأهداف؛ فيجب أنْ يُوكل شأنه إلى قوات السلطان المسلحة، وشرطة عُمان السلطانية، فإن حدث هذا فستنعم عُمان بشعب يحترم نفسه وعمله ووطنه، وسيشكل عنصرا منتجا بجدية في وطنه، خاصة إذا غيرت سياسة التعليم لتصبح من أجل الرقي بالمجتمع، وليس من أجل الرقي بالعمل وحده، والذي ثبت عدم جدواه، عندما كانت المخرجات محصورة بقدر حاجة العمل.