قرارات بدون مشاعر

هلال الزيدي

بينما هو يتصفَّح البريد اليومي -في تلك المؤسَّسة- الذي اختاره له مدير مكتبه دونما اعتبارات أو دوافع عدا الشخصية التي تجعله مؤثرا من خلف الكواليس.. نعم بينما يقلب تلك الأوراق مركزا على أسفلها حتى يضع توقيعه الذي إما سينتشي باتخاذ قرار ما أو سيودي بمستقبل فئة أو مشروع ما، أصابه الفضول عندما وقعتْ عينه على استقالة أحد موظفي المؤسسة وهي تسير في رمقها الأخير؛ فتراجع قليلا وتوقَّف علَّه يستوعب الموضوع، حتى أصبحت يده بين إقدام وإحجام، إلا أنَّه في نهاية الصراع الذاتي قرَّر ووقَّع دونما البحث في الأسباب والمسببات، مُكتفيا برأي مدير مكتبه، مع علمه بأنَّ هذا الموظف ذو كفاءة كبيرة، لذلك اتخذ قراره وهو يردِّد: "أحيانا كثيرة نُجبر على اتخاذ قرار وندوس على مشاعرنا".

تلك قضية مُتعدِّدة الأوجه، وتحمل دلالات وأبعادا كثيرة؛ منها: سيطرة رؤساء ومديري مكاتب متخذي القرار على توجهات رأس الهرم؛ فهم العين التي يرى بها ذاك المسؤول، وهم الأذن التي يسمع بها، وهم الجسر الذي يتودد من خلاله الآخرون، كما أنهم هم من يؤطرون توجهات المسؤول، لذلك تبدو عملية انتقائهم غير واضحة من حيث الآليات، فتجدهم يعتمدون على مجسات أخرى حيث إنهم ينشرون "المخبرين" الذين يأتوهم بالخبر اليقين وبما يتفق مع توجهاتهم ومصالحهم فقط؛ لذا فلديهم القدرة على حجب الكثير من الأشياء عن مُتخذ القرار، بحجة "ما وقته"!!

أمرٌ آخر يمكننا النبش فيه وهو دوافع الاستقالة التي تدفع الموظف الكفء لاتخاذ قرار المغادرة؛ وسرعة الاستجابة لطلبه توضح مؤشر أهميته وتقدير عطائه، فكثير من الموظفين قدَّموا استقالاتهم لأسباب تكمن في ضعف الشعور لديهم بالانتماء الوظيفي، حيث إنهم يشعرون بأنهم آلة في يد المسؤول متى ما شاء أن يشعلها أو يطفئها، وبالتالي يدفعهم ذلك الشعور إلى البحث عن بيئة أخرى حاضنة لقدراتهم ومعترفة بكفاءتهم، أو أنهم يهرعون لمستقبل مجهول يجدون فيه ميزة ما، وبطبيعة الحال ذلك أمر مشروع للجميع.

... إنَّ المحافظة على الولاء الوظيفي في ظل الأزمات التي طالت مستقبل الأفراد يجعل الأمر معقدا من حيث زيادة الإنتاجية؛ لأن الحافز أُجهض وعلق في شماعة الأزمة، حتى بات الشعور بالانفراج في مسألة الترقيات من الأحلام التي لا يمكن أن تتحقق، وعليه لم يستطع المسؤول أن يعلن عن الدوافع التي تدفع الموظف للاستقالة؛ لذلك تجده يتغنَّى دائما بأنَّ المادة لا يمكن أن تكون حافزا للموظف، وهذا يناقض في المقابل تمتع المسؤول بكافة الحوافز الممنوحة له.

لم تستطع كثير من المؤسسات مواجهة الأزمة الخانقة التي قلصت الموزنات إلا عن طريق التضحية بالأمل الوحيد الذي يجعل الموظف أكثر إيجابية، وبالتالي زادت الهوة اتساعا عندما أقدمت معظم المؤسسات على توقيف الترقيات التي لم تستقم. ومن هنا، تبدَّدت الأحلام، وكثر الحديث عن هذا الموضوع.

لا يُمكن أن تكون التضحية في سنوات الشدة مبنيَّة على صغار الموظفين بينما كبارهم ينعمون بكل الحوافز، وعليه نحن نسلم بأن فهم الأزمة يحتاج إلى اعتراف وتحديد الخلل، وإلزام رأس الهرم بتقديم التضحية ليكون القدوة لدى البقية.

ولو عدنا إلى الآلية المتبعة من قبل المسؤول في دمغه للأوراق المقدمة إليه فإن هناك ثمة أشياء مخفية تحتاج إلى تقصٍّ؛ خاصة أولئك الذين يوصدون أبوابهم تجاه موظفيهم، وبالتالي تغيب الكثير من الحقوق، وتختفي العديد من الأولويات، التي تراعي بالدرجة الأولى الحالة النفسية للمسؤول. ومن هنا، أتمنى أن يدقق المسؤول في الأوراق التي تصطف فوق مكتبه ويحيط نفسه بالأقوياء حتى لا تكون قراراته متسرعة، كما أن عليه اختيار بطانة صالحة تقوِّمه وتهديه إلى طريق يمتد إلى المؤسسة كافة.

ومن الضرورة أن تعيد مختلف الجهات حساباتها في تطبيق حالة التقشف، كما أنه من الواجب أن يبدأ التنفيذ من أعلى الهرم حتى يستقيم باقي السلم، كما أن البحث في واقع المؤسسات يحتاج إلى إيمان بوجود الآخر ودوره الذي يقدمه، فكلما تعاظم التبادل الإيجابي والاعتراف بأهمية العنصر البشري، استطعنا أن نضع حلولا تنهي كافة التعقيدات والتحديات، دونما اللجوء إلى إيجاد مشكلة من مشكلة أخرى، معتقدين بأنه هو الحل.

فالمشاركة والحوار البنَّاء الهادف طريق يجب أن تُفعَّل بكافة تجلياتها عن طريق تطبيقها واقعًا، حتى لا يترك المسؤول فرصة لتكوُّن بؤرة الأعداء، الذين سيحمِّلون المؤسسة فوق طاقتها؛ لذلك من الواجب أن تكون قرارات المسؤول نابعة من مشاعرة الإنسانية التي تخدم الصالح العام.

---------------------------

همسة:

لا يُمكن أن نُدرك كلَّ شيء.. لكننا يُمكننا أن نفهم ما يحيط بنا، وما تخفيه الوجوه بأقنعتها المتعددة.

abuzaidi2007@hotmail.com