الجيل الضائع

زينب الغريبيَّة

هَل نحن أمام جيلٍ ضائع؟ لا أحبِّذ سؤال مثل هذا، ولا حتى التفكير في أن يكون الجيل الذي حَظِي بظروف أفضل من الأجيال السابقة له يشعر بالضياع، أو أن ما حوله من الأجيال ترى أنه ضائع، لقد سمعت أحد الآباء يقولها لابنه الذي فشل في القيام بعمل صغير وهو ترتيب بعض الأشياء في سيارته، استوقفتني هذه العبارة كثيرا وأعادتني إلى مالك المرآب الذي كانت فيه "شتاين" مستشارة الروائي إيرنست هيمنجوي؛ حيث فشل الميكانيكي الشاب في إصلاح السيارة بصورة مرضية عندها صَرَخ مالك المرآب بصوت عال غاضبا عليه "أنت من الجيل الضائع"، وحين عرف منها هيمنجوي بالعبارة استخدمها في روايته "الشمس تشرق أيضا"، إنْ كان العجز عن القيام بأشياء عملية، وعن تحمل مسؤوليات معينة، فنحن بالفعل أمام جيل ضائع، ضائع عن الواقع الذي يعيش فيه، وضائع عن استثمار أفضل سنوات عمره، وضائع عن المسؤوليات التي يمكن أن ينجزها، إنْ كان هذا الجيل ضائع من الذي أضاعه؟ وهل ما يجري من أنماط تربية وتعليم سيقود إلى إعادة توجيه الجيل بعيدا عن الضياع.

علينا أن نبدأ في فتح هذه القضية بشيء من الجدية حتى نؤهل هذا الجيل لزمن أصعب من الزمن الوردي الذي يعيش فيه؛ حيث كل شيء يأتي له بيسر وسهولة وبدون عناء أو أدنى جهد، وحيث يرى الكثير من الآباء والأمهات في الوقت الراهن أن التربية هي توفير وسائل الراحة وإشباع الرغبات المختلفة، بدلا من أن تكون هي بناء المسؤوليات وتعزيز المشاركة والإنتاج؛ حتى يشعر هؤلاء الأطفال أو الشباب بأن لا بد أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم، ما الذي نكسبه اليوم مما يجري من تفريغ كل هؤلاء للعب فقط، نعم اللعب ضرورة وووسيلة لتعزيز مهارات معينة، ولكنه ليس غاية من حياة هؤلاء الشباب. وبالخروج من الأسرة، إذا نظرنا إلى مؤسسات التنشئة لا نرى ذلك التركيز على تحويل هؤلاء الشباب إلى معاول إنتاج وبناء مجتمعهم، يجلس الطلاب في المدارس للتلقين وقليل ما تتوافر لهم فرص للممارسة العملية، أو الانخراط في مسؤوليات إنتاجية أو مجتمعية. أما الأندية، فهي قليلة الجاذبية متوارية عنهم، وأما الجمعيات المدنية فالتواصل بينها وبين مجتمعها ضعيف جدًّا، خاصة مع هذه الفئات العمرية، إذن كيف يتعرف هؤلاء على ذواتهم، كيف يجدون أنفسهم في بيئة مليئة باللاشيء، كيف يعززون من ارتباطهم بأسرهم ومجتمعهم إن كانوا لا ينخرطون في أنشطة تسعى إلى تطويرهم والارتقاء بهم.

لا شك أن أخذ ردة فعل فقط من هذا الجيل، واتهامه بأنه جيل ضائع لا يساعد على الخروج به إلى دائرة المسؤولية والعمل والاهتمامات، إنما الذي يساعد هو التفكير في تفعيل دور مؤسسات التنشئة والتعليم للقيام بالأدوار المأمولة منها، حتى تنجح في الكشف عن إبداع هؤلاء الشباب، وتوفير الرعاية لهم، وزرع حب العمل في أنفسهم، وتعويدهم عليه، حتى يتمكنوا من تشكيل قطاع يمكن أن نطلق عليه "الجيل الواعد" بدلا من أن يكون "الجيل الضائع"، وتُعدُّ لهذا القطاع هيكلة محددة توضع الأهداف التي يمكن أن ينجزها هذا الجيل في المجتمع والدولة في هذه السن، لو تم تحقيق ذلك سنبدأ بزرع الثقة في هذا الجيل فنحن نريده أن يشاركنا في كل شيء، وثق بأن لديه قدرات كبيرة يمكن أن نستفيد منها في تعزيز التنمية، سنجعل منهم مفكرين مع الكبار، يجلسون معهم ويخططون بشكل مشترك، فنحتاج بذلك إلى تغيير نمط التربية، ولن يشعر أحد بأنَّ مَن حوله مِن أطفال وشباب "جيل ضائع" بدون هدف، وبدون وعي، ويمضي بدون بوصلة، ويخشى من تبعات ضياعه، ويؤسِّس المؤسسات لمواجهة نتائج الضياع بدلا من تفعيل دور المؤسسات التي تمنع الضياع أصلا.

لابد لنا أن نحمي أولادنا من سكر الدلال الذي يتمرَّغون فيه، وحياة الاتكالية التي نحيطهم بها بحجة أنهم صغار وغير مسؤولين، وتطول المرحلة حتى يتخرجون في الجامعات أو الكليات، أو حتى يجدون عملا يليق بالشهادة التي حصلوا عليها، التربية المسؤولة هي من تنتج جيلا مسؤولا قادرا على أن يقف على رجليه، ويبني ويعمِّر، يقود ويربِّي، لتستمر الحياة بالنمو عاليا نحو الأمام لا العكس.. والمسؤولية مشتركة بين جميع مؤسسات المجتمع المعنية، إلا أن الدور الأول والأهم يقع على عاتق الأسرة.