محمد بن رضا اللواتي
القوى كما نعلم أنواع عديدة، منها "القوة القاهرة"، وهذه نسبها الكتاب المجيد إلى الذات الإلهية المقدسة، قال "وهو الواحد القهار"، ولغة البرهان أيضا تعضد تلك النسبة، فالوجود "المطلق" من الواضح أنه لا يكون له حد ينتهي عنده، وبزوال الحد تغدو قوته "قاهرة" إذ ليس في قباله إلا المحدود، وما وزن المحدود في قبال المطلق إلا وزن "صفر" في قبال اللانهائي.
وهنالك "القوة الناعمة"، والتي تتعلق "بالفكر" و"بالثقافة" فتلعب بها وتنقلها من الشرق إلى الغرب، ومن اليمين إلى اليسار، ومن الأعلى إلى الأسفل وبالعكس. وهنالك "القوة الغاشمة" وهي التي تأخذ حق الغير عنوة وقهرا وتسلبه إياه ظُلما وعدوانا.
ولعل أشد الأوصاف لصوقا بعصرنا هذا هو كونه عصر الرضوخ لكون "الغشم" "حق" من حقوق القوى الكُبرى، كما خططت له بيوت الحرب منذ أمد، وإلا، فحين تكف "حقوق الإنسان" عن النطق ببنت شفة وحُرمة بلدان بأسرها تُباح، وتشريد أصحاب الأرض يجري على قدم وساق، ومُدُنا آمنة تُهدم على رؤوس قاطنيها من العجزة والصبيان والنساء أمام ناظري العالم من أقصاه إلى أقصاه ولا محتج أو معترض، فنحن نعيش فعلا عصر تمرير مبدأ الاعتراف "بحق السلب" للقوى الفتاكة، بناء على القاعدة الشاذة التي تقول بأن "الغشم هو المؤشر الأوحد لوجود قوة وملازم طبيعي لها".
ولكن اللافت أنه يتم زج "القوى الناعمة" لتمرير مبدأ القوة الغاشمة – عن قصد أو غير قصد - إلى ثقافاتنا ليصبح "الغشم" و"جرد الآخر من حقه" "حقا" بل و"ممتعا" حتى، بتحويله إلى "لعبة" يلهو بها الأولاد وربما ذووهم دون انتباه.
فمثلا، لعبة "CATAN" المذهلة التي ابتكرها KLAUS TEUBER الألماني، والتي تعلم الأطفال كيفية بناء المستعمرات والمدن الآهلة بالسكان، والمصادر الطبيعية التي ينبغي توفرها لأجل تشييدها، نراه يضع للطفل خيار "القوة الغاشمة" على هيئة "بطاقة" تتيح له السيطرة على مدينة وموارد اللاعب الآخر وجرده من حقه!
يستمتع الأطفال كثيرًا عندما تقع بين أيديهم البطاقة "الغاشمة"، ويتهافتون على أن تكون هذه البطاقة تحديدا ضمن بطاقاتهم، فلعل التوزيع العشوائي للبطاقات يضع بين أيديهم تلك التي تعينهم كثيرا على سرعة تشييد المدن، إلا أنّ فرحتهم لتملك بطاقة القوة الغاشمة أشد، لأنّها تمنح "حق الاستيلاء" على مدينة الآخر وموارده الطبيعية.
الأمر نفسه نجده في الشكل الأحدث للعبة "MONOPLY" الشهيرة للغاية، والتي أطلقوا عليها "MONOPLY DEAL" بعد أن تخلصت اللعبة من قاعدتها المتمثلة باللوحة واستبدلتها بالبطاقات. ففي هذا التحديث، منحت اللاعبين حق استخدام "القوة الغاشمة" متمثلة في 3 بطاقات هي:
خيار صفقة القوة،"Forced Deal" وخيار البطاقة "الخبيثة" "Sly Deal" وخيار هدم الصفقة "Deal Breaker" وكلها بنحو أو بآخر تبيح الاستيلاء على ما في يد اللاعب الآخر من مكتسبات وتجريدها منه!
لاحظ جمع من الآباء أن شعور الصبيان بالقوة والاعتزاز ببطاقات "القوة الغاشمة" يفوق شعورهم بها إن وقعت بين أيديهم بطاقات غيرها، وكأن استخدام فرط "للقوة الغاشمة" يساوي "الانتصار"! إنّهم يخشون أن يبدأ عقل الطفل بالاستئناس لهذه المتعة، فقد تشعر بعضا منهم كما لو كان يسلب من زميله في الصف حقيبته وقنينة الماء التي يحملها، الأمر الذي ليس بإمكانه أن يقوم به هذه الأيام لصرامة أنظمة المدارس الحديثة.
الطريف أنّ اللعبة كما أنّها لم تتوان عن إطلاق تسمية "البطاقة الخبيثة" على تلك التي تسحب الحق من صاحبه، أيضا ومن جانب آخر، منحت للمغلوب على أمره "حق الكفاح ومنع المعتدي" عبر بطاقة "Just Say No" التي تجيز رد العدوان وكل محاولات السلب قهرا. وكأن هذه البطاقة تمثل حق صاحب الأرض بالدفاع عن أرضه ووطنه بقوله "لا" للمعتدي، وهو حق لم يمنحه "مجلس الأمن" للفلسطيني أو اليمني، ولا منحته منظمات "حقوق الإنسان" في عالم اليوم للأزيديين وغيرهم ممن هشمت "داعش" أجسادهم، وفتت المفخخات أبدانهم، ولم يتظاهر به الحقوقيون وقت جرائم الكيان الصهيوني في "صبرا" و "شاتيلا" وغيرها، وقد أضحت دماء آلاف الأطفال من أمثال "محمد الدُرة" تاريخا فحسب، وإلا لكنا قد سمعنا وشوشات الاعتراض والاستنكار لما يجري اليوم من استباحة الاعراض وإراقة الدماء وهدم البلدان في أكثر من موقع في الشرق الأوسط.
لم تبتكر اللعبتان العالميتان بطاقة تدعو اللاعب بمعونة اللاعب الآخر في بناء أرضه، ومده بالموارد اللازمة مقابل نقاط يكتسبها إن رصف شارعا لزميله أو أعانه على بناء منزل، وكأن معونة المحتاج ومساعدة الضعيف ما عاد خيارا يستحق المكافأة!
يقترح بعض الآباء أن نعمل على لفت انتباه الصغار إلى أن خيار "القوة الغاشمة" لا يتوافق مع "الانسانية" التي تدعمها الأديان بأنواعها، ومشاعر العزة والقدرة لا ينبغي أن تتحقق مع وقوع هكذا بطاقات في أيدينا، وأنه بالإمكان إجراء تعديل طفيف ولطيف في اللعبة فتُصبح متضمنة لأكثر من حق "لا"، بحيث إن مشاعر العزة والقدرة تصبح تترافق مع ذلك الخيار ومثيلاته من خيارات الإغاثة والدعم والوقوف بجوار المحتاج.
التفوق يمكن أن يتأتى من ذلك الاتجاه وبمتعة أكبر. متعة تتوافق مع براءة ضمائر صغارنا الفطرية.