عيسى الرواحي
دوافع السفر في الحياة كثيرة وأهدافه مُتعددة، ووجهات نظر الناس فيه مختلفة، والسفر رغم متاعبه وما يحمله صاحبه من همِّ الغربة والابتعاد عن الوطن وأنَّه قطعة من العذاب؛ فإنَّ فوائده عديدة، ولعله بات اليوم ضرورة مُلحة لكثير من البشر؛ حيث طلب العلم والعمل والبحث عن العلاج المناسب، إضافة إلى كونه سياحة وترويحاً للنفس، واستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم في الحياة، ناهيك عن أنَّ للسفر رسالة عظمى تتمثل في أخذ الدروس والعِبر بحقيقة الحياة والأقوام الغابرة والتفكر في ملكوت الله عز وجل حيث يقول الله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة العنكبوت : 20] ويقول أيضا : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) [سورة الروم : 42]، وفي فوائد السفر يقول الإمام الشافعي: "تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلى// وسافر ففي الأسفار خمس فوائدِ// تفريجُ هم، واكتساب معيشةٍ// وعلٌم، وآدابٌ، وصحبةُ ماجدِ".
السفر مدرسة واسعة العلوم والمعارف، ومليئة بالخبرات والتجارب، وغزيرة بالفوائد والفرائد _وإن كانت محفوفة بالمصاعب والمتاعب _ ولا أظن أنَّ مدرسة أغزر علمًا للمرء من مدرسة الأسفار، ففيها يرى المرء شعوب الأرض المُختلفة وأطباعها، ويبصر واقعها وكفاحها، ويشاهد أحوال البلدان وأوضاعها، ويعلم ما قد كان غائبًا عن سمعه وبصره، وحسبي من لم يستفد من أسفاره شيئاً في دروس الحياة؛ فلا أظنه سيستفيد في باقي حياته من دروس الحياة شيئا، وكلُ مسافر له نظرته وقراءته لما يشاهده في سفره، وما يخبره من تجارب.
قد يسافر المرء إلى بلد فقير شحيح الموارد، فيرى المُعدمين والجياع والحفاة وأشباه العُراة؛ فيتجسد له الفقر المدقع والمسكنة وقلة الحيلة في مشاهد إنسانية يرق لها القلب وتدمع لها العين، ويتذكر حينها ما أسبغه الله عليه من نعم لا تعد ولا تحصى (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [سورة إبراهيم : 34] وقد يتذكر أيضاً صور اﻹسراف والتبذير عند شعوب ومجتمعات أخرى. وإذا كان الفقر ليس عيبا، فإنَّ التبذير من صفات الشياطين، يقول الله تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) )سورة اﻹسراء :27)
وقد يسافر المرء إلى بلد مكتظ بملايين البشر في كثافة سكانية لا تُطاق، فتتجلى له مشاهد الصبر والتعايش والتأقلم فيما عليه تلك الشعوب، وقد تتجلى له صور العمل والكفاح والتفاني والهمة والنشاط من بلوج الفجر إلى غسق الليل في أرقى معانيها وأبلغ صورها فلا نوم ولا كلل، ويتجلى له مشهد محاربة الفقر والسعي الدؤوب الحثيث لتوفير لقمة العيش؛ لتجعل اﻹنسان بالوجه الكالح هو بطل المشهد ما دام عازمًا على البقاء وراضياً بالقضاء، فيذكر نعمة الله عليه من وجود العمل المريح في المكان الملائم بالعائد الطيب المرتفع، ولربما يتذكر أيضاً صوراً عدة من مشاهد البطالة والتسيب الوظيفي.
قد يسافر المرء إلى بلد تزدحم شوارعها بشتى وسائل النقل من مركبات كبيرة ومركبات صغيرة ذات العجلات الثلاث ودراجات نارية وهوائية، فيعجب من مهارة القيادة وفن التعامل مع جميع فئات المركبات في خط سير واحد، وكل في فلك يسبحون، فلا اختناق مروري ولا حوادث سير إلا ما ندر، فيزداد عجبك من دول تنزف طرقاتها دمًا رغم سعة شوارعها وقلة سكانها.
قد يسافر المرء إلى بلدان هي قبلة للسياحة والسائحين من كل حدب وصوب، فيندهش من جمال الصورة الساحر، وروعة المنظر الباهر؛ حيث المساحات الخضراء بمد البصر تبهج النظر، وحيث الينابيع الصافية والشلالات الجميلة بما يسلب الألباب، وقد يشاهد عظمة التراث والتأريخ وأمجاد الأمم الغابرة فتأخذه العظة والعبرة، وقد يزيد إعجابه بسياسة تلك الدول في جذب السائحين وتثمير السياحة وجعلها مصدر دخل للبلاد والعباد، ولربما يتذكر مقومات سياحية في دول أخرى تفوق تلك البلدان التي سافر إليها بيد أنَّ حكوماتها عجزت عن حسن الإدارة والاستغلال.
قد يسافر المرء إلى بلد لطلب العلاج فيرى المستشفيات الكبيرة واﻷطباء الحاذقين الذين جعلوا من بلادهم مقصداً للشعوب اﻷخرى التي تبحث عن التشخيص الصائب والعلاج المناسب والدواء الناجع؛ فقد بلغوا ذرى المجد في عالم الطب، وقد ترى بعضًا من صور معاناة أبناء دول غنية يبحثون عن علاج مناسب لهم ولأسرهم.
قد تسافر إلى بلد مساحاته شاسعة وسكانه بمئات الملايين، فالمدن في مساحاتها دول، والسكان تكثر بينهم الديانات وتتعدد اللغات وتتنوع الطبائع والعادات، ولكن كلٌ مشغولٌ بنفسه، وله حرية مُعتقده، ولا أحد يتدخل في شؤون الآخر، فكلٌ يعمل على شاكلته، في وقت تتذكر بلدان صغيرة المساحة قليلة السكان مقارنة بتك الدول، ولكن بينهم من النزاع والتمذهب والتشرذم والفرقة والشتات، ما يضيق له الصدر ويحزن له القلب ... والله المستعان.