معركة ترامب مع الصحافة الأمريكية

أ.د. حسني نصر

منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض يواجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عاصفة انتقادات عنيفة في الصحافة الأمريكية تصل إلى حد الاغتيال المعنوي. كل الصحف الأمريكية الكبرى تقريباً تهاجمه في كل القضايا من الرعاية الصحية إلى العلاقات الخارجية، ومن تدخل الروس في الانتخابات التي جاءت به إلى السلطة إلى علاقة أفراد من أسرته التجارية مع روسيا، ومن زيارة بولندا إلى زيارة السعودية وإسرائيل، تقريباً لا أحد معه.

من بين هذه الصحف تبرز صحيفة نيويورك تايمز باعتبارها الأكثر عداءً لترامب حتى قبل أن يصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. ورغم هجومه المستمر على الصحافة، خاصة نيويورك تايمز واتهامه لها بنشر أخبار مزيفة، فإنه فاجأ الجميع الأسبوع الماضي باستضافة ثلاثة من مُحرري الصحيفة هم بيتر بيكر وميتشيل شميدت وماجي هابرمان في المكتب البيضاوي، وأجرى معهم حوارًا موسعاً استمر خمسين دقيقة بحضور المتحدث باسم البيت الأبيض هوب هيكز.

وبصرف النظر عما تضمنه الحوار الذى سيطرت عليه التحقيقات الدائرة حول تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والذي نشرته التايمز كاملاً في التاسع عشر من يوليو الجاري، فإن مبادرة ترامب بالحديث مع صحيفة تنتقده بشدة تؤكد ما جرى عليه العرف السياسي الأمريكي من احترام كبير للصحافة وتقدير أهميتها وقوتها، رغم ما قد يظهر على السطح أحيانا من انتقادات عنيفة لصحف أو صحفيين، وصلت مع ترامب إلى حد اتهام نفس الصحيفة بالفشل وتلفيق أخبار وقصص كاذبة عنه دون أن تتحقق منها، كما تؤكد أن الصحافة الأمريكية لا زالت تمثل بالفعل سلطة رابعة قوية وفعالة قادرة على نقد الرئيس، وتتمتع باستقلالية وحصانة شعبية في مواجهة السلطات الثلاثة الأخرى التنفيذية والتشريعية والقضائية.

عندما تقرأ كامل الحوار تكتشف أن صحفيي نيويورك تايمز الثلاثة كانوا أقرب إلى المحققين منهم إلى الصحفيين، وأنهم كانوا يستجوبون الرئيس ولا يحاورنه فقط، إذ تباروا في توجيه أسئلة شائكة تحمل اتهامات مباشرة له خاصة في قضية التدخل الروسي التي يمكن أن تعصف برئاسته كلها. من هذه الأسئلة التي لا يمكن أن توجه في العالم كله إلا من جانب صحفيين أمريكيين ولرئيس أمريكي سؤاله عما إذا كانت التحقيقات التي يجريها المحقق الخاص روبرت ميللر سوف تتجاوز كل الخطوط الحمراء إذا امتدت لتشمل الارتباطات المالية لأفراد من أسرة ترامب بروسيا. وقد رد ترامب على ذلك بقوله "نعم"، وإنه في هذه الحالة لن يكون أمامه سوى عزل المحقق الخاص.

الجميل في الأمر أن أحد الصحفيين الذين أجروا الحوار وهو بيتر بيكر نشر بعد أيام من نشر الحوار، مقالاً في الصحيفة وصف فيه ترامب بأنه ماكينة أخبار، وأنه يولد العناوين الصحفية الكبيرة كلما تحدث، وأنه جعل من عمل الصحفيين في البيت الأبيض صناعة رائجة. وقارن بيكر بين ترامب وبين الرؤساء الذين أجرى معهم حوارات مثل بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، وانتهى إلى القول بأن لا أحد من الرؤساء السابقين يشبه ترامب في قدرته على الاستفزاز واصطناع الإثارة وترديد الأكاذيب، وهي نفس التهمة التي سبق وأن وجهها ترامب إلى الصحافة وخاصة نيويورك تايمز التي وصفها في نهاية الحوار بأنها صحيفة فاشلة وضعيفة.

كان يجب على نيويورك تايمز أن تثمن اختيار الرئيس لها للحديث معها حصريًا، ولكنها لم تفعل ذلك. ولم يؤثر هذا الكرم الرئاسي في موقفها من الرئيس، واستمرت في الهجوم عليه وقامت في اليوم التالي لنشر الحوار بتحديث تقريرها الشهير "أكاذيب ترامب" (يمكن مراجعة التقرير من خلال الرابط التالي: https://www.nytimes.com/interactive/2017/06/23/opinion/trumps-lies.html?src=me) الذي تجمع فيه كل أكاذيب الرئيس منذ قيامه بأداء اليمين الدستوري في يناير من العام الحالي. تقرير الأكاذيب الذي يعمل عليه اثنان من أبرز صحفيي التايمز وهما ديفيد ليونهاردت وستيوارت تومبسون يشمل ثلاثة محاور أساسية مختصرة هي: اليوم ونص الأكذوبة كما جاءت على لسان ترامب، والدليل الموثق على عدم صحتها من خلال رابط يحيل القارئ إلى القصة الأصلية. ويبدأ سجل الأكاذيب بيوم الحادي والعشرين من يناير ويتضمن كذبتين، الأولى يقول فيها إنه لم يكن مع غزو العراق، والثانية يقول إنه سجل رقما قياسيا تاريخيا في احتلال غلاف مجلة تايم قبل أن يصبح رئيسًا، وهو أمر غير صحيح، إذ إنه جاء على غلاف المجلة إحدى عشرة مرة فيما يحتفظ الرئيس السابق نيكسون بالرقم القياسي بالظهور 55 مرة. أما آخر وأحدث الأكاذيب فتعود وفقاً للتقرير المحدث إلى التاسع عشر من شهر يوليو الجاري الذي شهد ثلاثة أكاذيب رئاسية تتعلق بأن التحقيقات بشأن التدخل الروسي ليست تحقيقات ولا تدور حوله، وتفوقه على الرئيس هاري ترومان في عدد الأوامر التنفيذية التي أصدرها خلال ستة أشهر من رئاسته، وأن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية يقدم تقاريره للرئيس، وكلها كما قالت الصحيفة أكاذيب.

وتقدم الصحيفة رسماً معلوماتياً ملوناً توضح فيه عدد أكاذيب ترامب الذي بلغ 181 كذبة، موزعة على الشهور الممتدة من 21 يناير إلى 19 يوليو 2017؛ منها 60 كذبة أعلنها أمام الناس بشكل جماهيري، في مقابل 121 كذبة لم يعلنها أمام الجماهير. وتعلق الصحيفة على ذلك بالقول إن صعود ترامب السياسي بني في الأساس على كذبة تتعلق ببرنامج أوباما للرعاية الصحية، وإنه لم يتوقف عن نشر الأكاذيب يوماً واحداً خلال الأربعين يوما الأولى من رئاسته، ولم يسبقه رئيس أمريكي آخر في إنفاق كل هذا الوقت في رواية الأكاذيب، وهو ما انعكس في زيادة نسبة الأمريكيين الذين لا يثقون فيه، ويرون أنه غير أمين لتصل إلى 60 بالمائة بعد أن كانت 53 بالمائة في بداية عهده.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يستطيع ترامب الصمود في وجه صحافة بلاده التي تلاحقه كما لم تلاحق رئيسًا قبله؟؟ دعونا ننتظر ونرى!!.

تعليق عبر الفيس بوك