د. سَيْف المعمري
مَاذا يُمكن للأرنب أن يفعل لو وجد أسدًا يُرِيْد أن ينقضَّ عليه؟ أمامه خياران؛ إما أن يهرب ويهرب ويقاوم من أجل أن يحيا، أو أنَّه يستلم مُباشرة لأنَّ الذي يهدِّده هو الأسد أقوى حيوانات الغابة، ولا أحد يمكن أن يتغلب عليه.. الأمر ذاته ينطبق على الحياة الإنسانية والعلاقات الدولية؛ حيث يجد صغار الناس والدول أنفسهم أمام تحديات من الأفراد الأكبر منهم، أو الدول التي تفوقهم في القوة والعتاد؛ لذا عليهم الاختيار بين الكرامة أو الذل، بين المقاومة والتحدي أو الاستلام ومعاناة المزيد من الذل، عليهم الاختيار بين الانهزام أمام الحصار أو تحويله إلى فرصة يُغيِّرون بها من أنفسهم ويعيدون التغلب على نقاط الضعف لديهم، التي لا ينتبهون لها في وقت السلم أو لا يكترثون إليها لأن لا توجد حاجة لذلك، هل يمكن للصغار أن يرفعوا رؤوسهم في هذا العالم المليء بالغطرسة والاستبداد؟ هل يُمكن لهم أن يقاوموا كل أساليب الحصار التي يمارسها أولئك الذين يظنون أنَّ سلطتهم تخوِّلهم للوصاية على الآخرين والتحكم فيهم، وبث الرعب في قلوبهم والتحريض عليهم؟
هذه أسئلة لا مفرَّ من مُواجهتها إمَّا اليوم أو الغد؛ لأن نعيش عالما يحكمه الأقوياء الذين لا هدف لهم إلا التعسف في استخدام القوة، ورؤية ضحاياهم يئنون ويتوسلون إليهم.
عرفت أفرادا وجدوا أنفسهم في مثل هذه الأوضاع فما ضعفوا أمام ذلك، إنما جعلوه منطلقا لبناء جديد، يجعل من الفرد معتمدا على نفسه، وما ينسحب على الأفراد ينطبق على الدول التي يمكن أن تحاصر، وتتعرض للخنق، وعليها أن لا تنتظر الحصار بل تعد العدة له من الآن، لأنه قادم طالما حصل لبلد يمكن أن يحصل لبلدان أخرى، العالم يستعيد في القرن الحادي والعشرين سلاح الحصار، وهو أحد أسلحة القرون الوسطى، برغم أنه وصل إلى مرحلة متقدمة من تطوير آليات حل الصراعات بالأساليب السلمية.
إذن؛ ذلك مؤشر على أننا نعيش في منطقة تحكمها عقلية القرون الوسطى، وعلينا والآخرين أنْ لا نثق بعد اليوم بأية نوايا، علينا أن نبدأ في تقليل الاعتماد على الخارج أيًّا كانت صلته بنا؛ سواء كان صديقا أو عدواً، علينا أن نتخيل أننا محاصرون ونبدأ في استنهاض ما مات من عزائمنا، وأن نعمل على إيقاظ من سهت عينه من مؤسساتنا، وأن نجعل من أماكن اتخاذ القرار أماكن مسؤولية وعمل لا تشريف وتراخي، علينا أن نقلل من تعليق آمالنا بالخارج واستثمارته، وأن نوظف إمكانات الداخل وثرواته، وأن نتعلم من تاريخ الدول الصغيرة التي تعرضت للحصار مثل كوبا. وكوبا هذه الدولة التي تقع في أمريكا الجنوبية عبارة عن مجموعة جزر تبلغ مساحتها الإجمالية 109.886كم2، وسكانها اليوم لا يزيدون على 11 مليوناً، ومنذ خمسين عاما ونيف وهي تتعرض لحصار، حتى أعاد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما تطبيع العلاقات معها. لكن كيف صمدت هذه الدولة الصغيرة أمام العملاق الأكبر في العالم كل هذه السنين؟ فهذا أمر يدعو إلى التفكير والتعلم اليوم في الخليج الذي بدأت فيه دوائر الحصار تتسع ولا أحد يعرف بعد حدود اتساعها في المستقبل.
كيف غيَّر الحصار من حياة المجتمع الكوبي، ألخِّص بعض النقاط التي ذكرها أسامة النباهين في ملخص قدَّمه عن فيلم وثائقي بعنوان "قوة المجتمع: كيف استطاعت كوبا تجاوز أزمة النفط"، وعنوانه بالإنجليزي (The power of community- how Cuba survived peak oil).
- صمدتْ كوبا خلال العقود الأولى من الحصار، وكان وجود الاتحاد السوفييتي يمنحها قوة، ولكن بعد انهياره في التسعينيات انقطعت مساعداته عنها وفي مقدمتها النفط، فتسبب ذلك لها بإشكاليات كثيرة حيث توقفت السيارات والحافلات وورش العمل والمصانع، لذلك لجأ الناس إلى توفير الغذاء من الزراعة في كل المساحات الممكنة، والتي ما كانوا يلتفتون إليها من قبل؛ لأنَّ الغذاء شح نتيجة عدم القدرة على الاستيراد، وزاد الجو الحار من الأزمة مع انقطاع الكهرباء؛ حيث لم يعد الناس قادرين على استخدام الثلاجات لحفظ الغذاء، لذا لابد أن تطبخ الأغذية القابلة للتلف يومياً.
- لمواجهة تأثير الحصار على النقل؛ حيث لا يتوافر وقود لتسيير الحافلات ولا قطع غيار، استوردت الحكومة الكوبية 1.5 مليون دراجة، وصنعت نصف مليون وزَّعتها على الناس، كان على مجتمع السيارات أن يتعود على استخدام وسيلة نقل لم يكن يتخيل يوما أنه سوف يستخدمها، وهذا هو التغيير الذي تحدثه الظروف غير المتوقعة.
- في التسعينيات هدَّدت الولايات المتحدة ما تهدد به بعض الدول اليوم في المنطقة من معاقبة الشركات التي تتعامل مع كوبا. وبالفعل، نفَّذت ذلك ومنعتها من العمل في الولايات المتحدة؛ وبالتالي أثر ذلك بشكل كبير على استيراد الغذاء وعلى تدفق رؤوس الأموال.
- لمواجهة هذا الحصار الشديد، وجدتْ الحكومة نفسها مُجْبَرة على تحديد حصص من الطعام لكل مواطن، علاوة على ضرورة إنتاج مزيد منه داخليًّا حتى لا يموت مواطنوها، لكن الإشكالية أن قطاع الزراعة كان معتمدا على الآلات والمبيدات الحشرية والأسمدة التي تعتمد على مشتقات النفط التي لم تعد متاحة في كوبا، فكيف ينتجون الغذاء بدون آلات؟ أصبح أمام الناس شعار إما أن تزرع وتحيا أو تموت نتيجة الاعتماد على الحصص المحددة؛ لذا أصبح الكل يزرع: الأطباء والمهندسون رغم عدم معرفتهم بالزراعة لكنهم تعلموا من أجل اكتساب الخبرة، بل إنَّ الأزمة دفعتهم لتبني نمط زراعي بدون مبيدات وأسمدة، وافتتحوا في العام 1993 أول مدرسة لتعليم هذا النمط من الزراعة بمبلغ لا يمكن أن يتخيله أولئك الذين يطالبون بالملايين لافتتاح مدرسة ابتدائية وهو ألف دولار، وكان أثر هذه المدرسة عظيما، التعليم في خدمة التحولات والتطورات، التعليم لا يجب أن يكون منعزلا عمَّا يجري من تحولات، علينا أن نعي ذلك ونحن نسمع كل هذه الدعوات للحروب والحصارات والتجويع والتهجير، وتدمير المجتمعات.
- أصبح المزارعون هم أكثر الناس دخلاً، وهم الأفقر في الدول الأخرى، الناس بدأت تعتمد على نفسها في إنتاج الغذاء، وكان هذا شيئا مستحيلا من قبل، الدولة لعبت دورا مثيرا جدا للانتباه كانت مع الناس ولصالح الناس، والنتيجة مذهلة المدن وفرت 50% من المدن احتياجها من الغذاء، والريف وفر 80% من غذائه، والبيئة أصبحت نظيفة، والغذاء صحي لأن التربة لم تعد تستقبل المبيدات الكيماوية، حيث كانت كوبا تستهلك 21 ألف طن من المبيدات، واليوم تستهلك ألف فقط، والقطاع وفر وظائف كبيرة بعد أن كان يعتمد على الآلات، وهذه كانت أهم ثمار الحصار.
- عمل الحكومة على تعزيز قيمة المجتمع من خلال العمل الجماعي في المزارع، وأيضا في تقاسم الغذاء، لم يكن الحصار ليقود إلى استغلال الناس للناس، من يملكون لمن لا يملكون، بل إنَّ بعض المزارعين كانوا يتبرعون بجزء من المحصول لمراكز رعاية الكبار أو النساء الحوامل أو للمدارس.
- تأثَّر التعليم أيضًا من الحصار؛ حيث لم تعد الحافلات قادرة على نقل الطلاب؛ لذا ذهبت المدارس إلى الناس في أماكنهم، ولم يصبحوا بحاجة إلى الانتقال إليها، ولكن لم يكن الحصار مبررا لإهمال التعليم كان توفير الغذاء والتعليم يسيران في نفس الاتجاه بناء إنسان مقاوم، ولم تفرض أي ضرائب على التعليم أو الرعاية الصحية بل ظلتا مجانا، بل إنَّ المدهش أن الدولة المحاصرة وفرت مستوى صحيًّا لمواطنيها أفضل بقيل مما وفرته الدولة المحاصرة وهي الولايات المتحدة، وبشكل عام تحسنت صحة الكوبيين لأنهم أصبحوا يمشون ويركبون الدراجات الهوائية، وانخفضت أمراض السكري وضغط الدم وأمراض القلب، وزاد الاعتماد على الطعام النباتي وقل الاعتماد على الطعام الذي به دهون، ظهر إنسان مختلف من عمق الحصار ما كان ليظهر لو كان يعيش كما تعيش بقية الشعوب.
- قاد الحصار إلى الابتكار والتفكير في الأساليب التي لا تكلف شيئا ولا تحتاج إلى معدات مستوردة؛ لذا حوَّلت الشاحنات إلى حافلات، وسميت إحدى هذه الحافلات بـ"الجمل"؛ لأنها صُمِّمت لتقل 300 شخصاً، وقاد الوضع إلى تغيير في تصميم المناطق السكنية والمراكز التجارية وأماكن العمل؛ حيث جعلوها قريبا من الناس حتى يتمكنوا من الذهاب إليها بيسر، وتحولت محطات حولت لاستخدام الوقود الحيوي.
هل المجتمعات والدول بحاجة للحصار حتى تفوق من غفلتها وتغيِّر من أنماط حياتها وسياساتها من أول أزمة تسمع عنها؟ على أية حال، بدأ سلاح الحصار في الظهور، وهو إما أن يكشف عن قوة في المجتمعات كما ظهرت قوة المجتمع الكوبي أمام الحصار الأمريكي، أو يكشف عن هشاشة مخيفة تختبئ وراء الحالة التنموية البراقة في المنطقة.. لكنَّ المجتمعات الواعية عليها أن لا تنتظر ما تأتي به الأيام إنما تبدأ في الاستعداد، سيما وأنَّ أزمة النفط قد ظهرت قبل أزمة الحصار، والأزمات مقبلة، والمنطقة لن تكون جنة الله في الأرض، إنما ستتحول إلى صراعات كبيرة جدا، لن يصمد خلالها إلا المجتمع القوي المتماسك الذي يعيد اكتشاف إمكاناته وطاقاته الداخلية ويوظفها لتقليل الاعتماد على الخارج.