الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون

علي الرئيسي

عبدالرحمن بن مُحمد ابن خلدون الحضرمي (1332- 1406)، ربما يكون قد نال ما يستحقه من شهرة وريادة في مجال التاريخ وفلسفته والاجتماع وأصوله، لكن هذا المقال المختصر يُضيء القليلَ من جوانب إسهاماته في مجال لم يُركِّز عليه الكثيرون؛ وهو: الاقتصاد.

ولاشكَّ أنَّ ابن خلدون قد اطلع على الصيغة البدائية لتقسيم العمل التي تداولها أفلاطون وزينوفون، غير أن إسهامات ابن خلدون في وضع اللبنات الأولى للاقتصاد الكلاسيكي يمكن أن تضعه في مقام الأب المؤسِّس لعلم الاقتصاد، فقد سبق ابن خلدون آدم سميث الذي يعتبر مؤسس علم الاقتصاد الحديث ومؤلف "ثروة الأمم" بثلاثة قرون من الزمن، بل إن ابن خلدون لم يضع فحسب البذرات الأولى للاقتصاد الكلاسيكي، سواء كان ذلك بالنسبة للإنتاج، العرض أو التكلفة، بل إنه يعتبر أول من كتب عن الاستهلاك، الطلب والمنفعة، والتي هي أركان أساسية في علم الاقتصاد.

ويرجع الاقتصاديون في الغرب نظرية القيمة لآدم سميث وديفيد ريكاردو، لأنهما حاولا تقديم أسباب مقنعة لالتباس الخاص بتعريف القيمة؛ فقيمة السلعة بناء على تفسير آدم سميث -ومن ثم تم تطوير ذلك من قبل ريكاردو- ترى أن القيمة التبادلية للسلعة يساوي الوقت الذي بذله العامل في إنتاج تلك السلعة، وبناء على هذا المصطلح توصل كارل ماركس إلى أن أجور العمال يجب أن تساوي إنتاج العمل؛ وبالتالي أعلن توصيفه الثوري للقيمة المضافة الذي يحصل عليه صاحب رأس المال، غير أنَّ ابن خلدون هو أول من قدَّم لنا نظرية القيمة المرتبطة بالعمل. وبالطبع؛ فإنَّ ابن خلدون لم يُسمِّ تفسيره للقيمة بالنظرية (راجع الفصل الخامس من الكتاب الأول للمقدمة، فصل في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية)، فابن خلدون يصنف الدخل إلى صنفين ربح وكسب، فالربح هو صافي الدخل، والكسب هو العمل الذي يقوم به الشخص لصالحه، وسواء كان ربحا أو كسبا، فابن خلدون يرى أن القيمة هي قيمة عمل الإنسان.

كما تناول ابن خلدون تحليل الكلفة؛ فأوضح أنَّ الأسعار سواء كانت مُبالغا فيها أو أسعارًا متدنية، فهي مقيدة للسوق وللتجارة وتؤدي للكساد، كما تناول موضوع الربح والخسارة وذلك بالطبع قبل أن يطور فرانك نابت نظريته في الربح فقال ابن خلدون في مقدمته: "اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء"، لذلك نصح الدولة بألا تقوم بتحديد الأسعار حيث إن إبقاء الأسعار منخفضة عن طريق تدخل الدولة سواء كان ذلك عن طريق الدعم أو أي طرق أخرى تعد سياسات كارثية لأنَّ هذه السلع ستختفي من السوق، وأن المنتجين سيتوقفون عن إنتاجها، كما أن المبالغة في الأسعار ستؤدي إلى كساد السلع، ولن تؤدي إلى توسع الأسواق.

لقد اختصر ابن خلدون المسألة بعبقرية حين أوضح أنه "إذا كانت السلع قليلة ونادرة فلا بد للأسعار أن ترتفع". وقد أسهم ابن خلدون في النظرية النقدية Theory of Money؛ حيث أوضح في المقدمة أنَّ النقود هي ليست ثروة بذاتها وإنما هي وسيلة أو أداة لتحقيق الثروة، كما أنه أول من استعرض وظيفة النقود كأساس للقيمة؛ فقد أوضح أن الذهب والفضة؛ هما مقياسان أو وحدة حساب لقياس الثروة. وقد بين أن أسعار جميع السلع خاضع لتذبذب عدا سعرالذهب والفضة كمقياس لقيمة النقود. لذلك فهما مصدران للربح، واقتناء الممتلكات والثروة. فابن خلدون أول من كتب عن الفرق بين النقود والثروة الحقيقية رغم معرفته بأن الحصول على الثروة يأتي عن طريق النقود والمال، وأوضح بعبقرية أن التبادل التجاري بالنقد هو أكثر فاعلية من نظام المقايضة؛ سواء كان ذلك بين الأسواق أو بين الأقطار المختلفة، وقبل قرون من إصدار ديفيد ريكاردو كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب" عام 1817، أعطى ابن خلدون تفسيرا أصيلا لأسباب الاختلاف في دخل العمال؛ حيث أرجع هذا التفاوت إلى اختلاف في مهارات العمال، وحجم السوق، الموقع، وحرفية العمال، والمهنة.

ويؤكِّد ابن خلدون الدور الذي تؤديه الدولة في الاقتصاد حيث تكون الدولة حسب تعبيره: في أولها بدوية ثم بالتمدن أي تأخذ بدين الحضارة والترف. حيث يكون كل من دخلها وإنفاقها قليل ثم يبدآن بالتوسع، وأن هذا التوسع يكون مفيدا للإنتاج وتوسع الأسواق. حيث يتوسع شراء الدولة من السلع والخدمات. ويتناول أيضا دور السياسات المالية (Fiscal Policy) سواء كان ذلك بالنسبة للإنفاق أو فرض الضرائب، وكيف أن الإنفاق غير المتوازن يؤدي للزيادة في فرض الضرائب؛ مما يؤدي لتباطؤ النشاط الاقتصادي والكساد؛ وبالتالي يعتبر ابن خلدون أول من وضع (Optimum rate of taxation) المعيار الأمثل لنسب الضريبة.