أبعاد استراتيجية (1)

الأطر الأخلاقيّة الوطنية

د. هلال الشيذاني

يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثتُ متممًا لمكارم الأخلاق". ويقول ألبرت سكيوتزر: "الأخلاق، تكون حسنة إن هي حافظت على الحياة وأسهمت في تقدمها، وتكون سيئة إن هي أضرّت بالحياة أو دمرتها". ويقول إمانويل كنت: "في القانون، يصبح الشخص مذنبًا إذا اعتدى على حقوق الآخرين، لكنّه في الأخلاق، يكون مذنبًا بمجرد تفكيره بالاعتداء على حقوق الآخرين".

عندما كنت خلال مرحلة دراسة الدكتوراه، كان عليّ أن أجري دراستي في ظل أطرٍ أخلاقية مقننة، تحدد ما يجب عليّ فعله تجاه المشاركين في الدراسة، وما يجب عليّ البعدُ عنه، والإجراءات التي تضمن للمشاركين حقوقهم؛ كما كان يجب عليّ السير في ظل أطر أخلاقية واضحة بحيث لا تؤثر الدراسة على أي فرد سلبًا ولا أن تسلك مسالك غير صحيحة من أجل أن تخرج بالطريقة التي أراها. ومختصر هذا كله أنّه كان عليّ كباحث الأخذ بمبدأ "الغاية لا تبرر الوسيلة"، وأن أبحث عن الوسائل التي تحقق الغاية في ظل أخلاقيات معينة. لكنني في بحثي عن هذه الأطر الأخلاقية للبحث العلمي، لم أجد ما يمكنني الرجوع إليه في عُمان سوى النظام الأساسي للدولة، الذي يشير في بعض من مواده إلى الحقوق العامة للفرد، وبالتالي كان عليّ الاستعانة بأطر أخلاقية غربية كإطار الجمعية الاجتماعية البريطانية (BSA)، وجمعية الدراسات التربوية البريطانية (BERA)، والإطار الأخلاقي لمجلس الدراسات الاقتصادية والاجتماعية (ESRC Ethics Framework).  

لعل ما أكّد عليّ النظر للبعد الاستراتيجي للأطر الأخلاقية موقف مع أحد الباحثين في العلوم الإنسانية في إحدى الدول العربية، حيث وخلال نقاشنا، أخذ الباحث يسرد لي أسماء الذين قام بمقابلتهم خلال الدراسة، وهو أمر مخالف للأطر الأخلاقية التي تنص على سرية المعلومات وخصوصية المشارك في البحث، إلا أن يكون قد استأذن من ذوي العلاقة نشر أسمائهم. فلما طرحت على الباحث السؤال حول ما إذا كان قد بيّن للمشاركين في البحث أنه سيكشف عن شخصياتهم، تبيّن لي أنه لم يوضح لهم ذلك، كما أنّه لم يستأذنهم لكشف محتوى حواراتهم التي كانت تعتبر جزءًا من مقابلات الدراسة التي تتسم بالسرية وتحفظ للمشاركين خصوصيتهم.

ولهذا، فإنّ وجود الأطر الأخلاقية للبحوث والدراسات، والتي تنبثق من القيم المجتمعيّة العمانية والتشريعات السارية في الدولة، له أهميّة كبيرة، في وضع علامات المرحلة القادمة في مسيرة الوطن، وخصوصا مع ازدياد عدد الباحثين والدارسين، ولاتساع رقعة البحث العلمي في جوانبه المختلفة، وزيادة عدد مؤسسات التعليم العالي، وتوجّه التعليم العام نحو غرس ثقافة البحث العلمي لدى النشء الذي يمثّل أجيال عمان القادمة. وتأتي أهمية هذا الدور في بيان حقوق الباحث وحقوق المجتمع وحقوق المؤسسات الراعية للبحث. وثلاثية الحقوق هذه، هي من الأسس الرئيسة في تنظيم العلاقات بين الأطراف المتعددة ذات العلاقة بما يحفظ الحقوق ويُلزمُ بالواجبات.

وهناك وجه العملة الآخر، المتمثل في الأطر الأخلاقية للمهن والوظائف، وهي أيضًا أطرٌ مفقودة. ولهذا الفقد بصمات واضحة في اختلال العلاقة بين أرباب العمل والعاملين لديهم، وبين المرؤوسين ورؤسائهم، وبين الموظفين والمراجعين. فالأطر الأخلاقية للمِهنِ والأعمال، تسهم في تأطير العلاقة بين أرباب العمل والعاملين لديهم، وتوضح العلاقة التي تربطهم، وتحدد أين تنتهي حقوق هؤلاء لتبدأ حقوق أولئك، وتوضح المرجعية الأخلاقية العامة للعلاقة بين الرئيس والمرؤوس وواجبات كل منهما تجاه المؤسسة وأصحابها، وواجبات الكل تجاه وظيفته والمستفيدين من الخدمة التي يقدمها. فكم مرت علينا من تجارب وقفنا فيها على أبواب بعض المسؤولين طويلا حتى ننتظر ذلك المسؤول لكي يودع ضيوفه الذين يستريحون على الأرائك الوثيرة في مكتبه مستمتعين بالحديث الذي يجر بعضه بعضا، وكم من مرة التقينا بموظف أو موظفة لا يعرف للابتسامة سبيلا في وجه المراجعين، ويعتبرهم عبئا يُثقل يومه، وكم من مرة مرّ علينا شخوص يعتبرون أنّ الراتب الذي يتقاضونه من جهة عملهم هو حق مضمون فقط لمجرد شغلهم للوظيفة، وأنّ أي خدمة يقدمونها للمراجعين، إنّما تنصب في إطار كرمه الذي يقرر مقداره هو على المراجعين، وكم من حكاية سمعناها عن مراجعين يُطلب منهم العودة المرة تلو المرة من أجل أن ينتهي الموضوع الذي يراجعون فيه، في عدة أشهر، وقد كان لا يتطلب إلا دقائق أو ساعات من العمل المخلص المؤطر بأخلاق عالية وضمير حيّ.

يمثل وجود الأطر الوطنية لأخلاقيات المهن والوظائف والبحوث والدراسات، بعدًا استراتيجيات مهمًا، في إسناد القوانين والتشريعات السارية في الدولة، وله أثرٌ داعمٌ كبير في بيان ميزان الأخلاق الذي هو حلقة الوصل بين روافد الثواب ودوافع العقاب، ويجعل من الباحثين والموظفين وأصحاب الأعمال على حدٍّ سواء، أطرافًا متكاملة الأدوار في سير الوطن نحو مستقبله الزاهر في ظل منظومة متكاملة الأركان ومتزنة القوى.

         

تعليق عبر الفيس بوك