عبد الله العليان
يرى العالم وحيد الدين خان في كتابه "حكمة الدين": "إن علم حكمة الدين أو أسرار الشريعة من العلوم التي نشأت لشرح الإسلام وتفسيره، كما أن هذا العلم يهدف إلى البحث عن الحكم وراء التعاليم الدينية والتنقيب عن المصالح الكامنة فيها؛ فتحديد أركان الحج وواجباته، وتبيين أسلوب تأديته هو الفقه، أما أن تبين فوائد الحج فتقول: "إن الحج يكون حول محور عبادة الله مجتمعًا عالميًّا لأهل الحركة الإيمانية"، فهذا هو علم حكمة الدين.
كذلك كان البحث عن حكمة الدين من الموضوعات المحببة إلى نفوس علماء الأمة ومفكريها منذ ظهور هذا الدين. إن قدرًا كبيرًا من المعلومات في هذا الموضوع، كما يقول وحيد الدين، متناثر في مكتبتنا الإسلامية الضخمة، ولكن الكتب التي تناولت هذا الموضوع نفسه قليلة جدًا؛ فإنه يمكننا أن نشير إلى مئات الكتب حول فن ما من الفنون أو علم ما من العلوم الإسلامية، إلا أن الأمر يختلف فيما يتعلق بموضوع حكمة الدين، ولعل كتاب "حجة الله البالغة" للإمام ولي الله الدهلوي أبرز جهد في هذا الحقل، بيد أن هذه الجهود تتعلق بجانب واحد من جوانب حكمة الدين؛ فإنك لو ألقيت النظرة من جانب آخر على هذه الجهود لتبين لك أن علم "حكمة الدين" كان أقل حظًّا وأندر اهتمامًا من جانب علماء الأمة".
الحيثية الأساسية للإنسان كما شرعه الإسلام وارتضاه للمسلمين، كما يرى وحيد الدين خان أن هذا "الدين عند تنفيذه يشمل عناصر كثيرة يمكن أن يطلق على مجموعها بأنها "نظام الحياة"، ولكن هذا مظهر من مظاهر الدين وحقيقة من حقائقه، إنَّها حيثية إضافية من حيثيات الدين، وليست هي الحيثية الأساسية.إن الذين حاولوا دراسة الدين في ضوء فكرة "النظام" ، وفق رؤية وحيد خان، قد وقعوا في نفس الخطأ الذي قد وقع فيه الذين أقاموا لدراسة الإنسان النظرية القائلة: "إن الإنسان حيوان اجتماعي"، إنه مما لا شك فيه أن للإنسان وجودًا اجتماعيًّا في حياته العامة، ولكن هذه الحيثيَّة ليست هي الحيثية الأساسية للإنسان؛ فكونه اجتماعيًّا مظهرٌ واحد من المظاهر التي يكتمل بها الوجود الإنساني، إن الحيثية الأساسية للإنسان أنه مخلوق ذو روح وذو إرادة، أما الحيثيات الأخرى - من اجتماعية وغيرها - فكلها خارجة من بَطنِ هذه الحيثية الأساسية.
فالقول بأنَّ "الإنسان حيوان اجتماعي" هو بمثابة القول بأن كون الإنسان اجتماعيًّا هو الأساس الذي يمكننا فهم الإنسان في ضوئه، ويتَرتَّب على هذا أن جميع حيثيات الإنسان سوف تتفرَّع من هذا لأصل، وسوف تكون جزءًا من أجزاء هذا الأساس، ويقتَضِي هذا التفسير لظاهرة الإنسان أن تكون جميع الحيثيات التي لا بدَّ منها لظهور الإنسان - تابعةً لحيثيته الاجتماعية؛ فمثلاً يقتضي كون الإنسان حيوانًا اجتماعيًّا أن يظهر في صورة الجسد والروح، وأنه لهذا السبب يتمتَّع بالروح والجسد، وهو يقتضي أن تكون للإنسان سياسة؛ فلذلك يوجد لديه هيكل فكري سياسي، وهذا التصور يقتضي أيضًا أن يقوم الحيوان الاجتماعي بتفسير علاقته بالكون، ولذلك ظهرت فلسفة خاصة به إلى الوجود.. إلخ.
إن هذا التفسير لظاهرة الإنسان، كما يشير وحيد الدين، يتناول في ظاهر الأمر كل حياة الإنسان، ويبدو تفسيرًا متكامِلاً، ولكنك لو أمعنت النظر لوجدت فيه أخطاء عديدة، كما أشار إليها وحيد الدين: أولاً: أن الحيثية الأساسية للإنسان في ضوء هذا التفسير هي التمدن، أما العناصر الأخرى فلا تجد لها مكانًا إلا كتوابع لهذه الحيثيَّة الأساسية، هذا بالرغم من أن الأصل في الإنسان هو كونه ذا روح، أما جميع الحيثيَّات الأخرى فهي مظاهر أو توابع أو مقتضَيات لهذا الأصل. ثانيًا: لقد تغيَّر المطلوب من الإنسان بتغيُّر النظرة إليه؛ ففي ضوء هذا التفسير يكون المطلوب أساسًا هو كل ما يساعد الإنسان على النهوض بتمدُّنه، بالرغم مِن أن المطلوب الأساسيَّ يَجب أن يكون الشيء الذي يكون مطلوبًا منه كوجود روحانيٍّ. ثالثًا: الأمر لا يتوقَّف عند هذا الحدِّ بل إنك إذا نظرت إلى الأمر من الناحية العملية؛ فستجِد أنَّ كلَّ شيء قد اختفى، فمَنبَع جميع نشاطات الإنسان ومَظاهرُه هو الروح، ولِذَلك لا يمكن توقُّع نتيجة هامة في الحياة الإنسانية، إلا إذا كان يسندها اعتقاد راسخ في نفس الإنسان وأعماقِه بضرورة تلك النتيجة وحَتمِيَّتها لوجوده.
ويتساءل المُفكر وحيد الدين في هذه الرؤية التي يراها جديرة بالمراجعة للتاريخ الإسلامي الذي يقدم بعض الرموز الإسلامية، اجتهاداً تفسيرياً لبعض الآيات القرآنية فيقول"هل التاريخ الإسلامي يقدم دليلا على أن الدعوة الدينية دعوة لإقامة النظام.
أما من الناحية العملية؛ فإن تاريخ الأمة كله يفتقر إلى مجاهد واحد كافح لأجل "حركة ثورية جامعة" من هذا النوع؛ لقد انتشر المسلمون في معظم أنحاء الأرض وقاموا بالدعوة إلى الإسلام، وأقاموا دولاً إسلامية في بلاد كثيرة، ولكن لم يحدث في مكان ما أنهم بدؤوا دعوتهم بالمناداة بالثورة الإسلامية، أو بإقامة "الحكومة الإلهية"، وإذا كان بعض كُتَّابِ هذا التفسير قد حاول البحث عن بعض الأمثلة لمثل هذه الدعوة في تاريخ الإسلام؛ فإنَّ ذلك لا يعد من باب التاريخ بل هو تأليف التاريخ، أما إذا ادعى مختَرِعو هذا التفسير أن جميع الحركات الإسلامية في تاريخنا الطويل كانت حركات ناقصة، أو أنَّ أصحابها لم يكونوا على دراية كاملة بالدين - فإنَّ مثل هذا التأويل إنما هو اعتراف بخطأ هذا التفسير وعدم علاقته بالإسلام الصحيح لَيسَ غَير؛ وذلك لأن الاعتراف بخطأ أفكار رجل ما أهون من أن نعتبر تاريخ الدعوة الإسلامية كله ناقصًا.