رباطة الجأش البريطاني إزاء تفجيرات مانشستر

عبيدلي العبيدلي

في مساء مُرعب غلفت سماء مدينة مانشستر البريطانية سحابة حزن صنعها تفجير إرهابي لنفسه. طبيعة الحادث ومعها الضحايا تؤكد وللمرة الألف بعد المائة أنَّ مثل هذه الأعمال فقدت جدواها، بعد أن تجردت من أي مبرر يسمح لمن يقوم بها. فشلت العملية، جهة سياسية مُنظمة كانت تلك القوة التي تقف وراء العمليات الانتحارية، أم أفرادا مبعثرين، أم إحدى وكالات الاستخبارات الدولية، في أن تبرر إرسالها لشياطين الموت كي تزهق أرواح أناس أبرياء.

ليس القصد هنا التصدي والبحث عن مبررات تصمد أمام الاتهامات التي توجه للإسلام لحظة وقوع مثل هذه التفجيرات، فكلاهما سيل الاتهامات، ومسلسل الدفاعات تحولا إلى ما يشبه الأسطوانة المشروخة التي تجرح آذان من يستمع لها، بقدر ما ينبغي لفت النظر إلى الهدوء ورباطة الجأش التي أدارت بها رئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي العملية برمتها بدءًا من وصول الخبر إلى 10 دوننغ ستريت، مرورا باكتشاف هوية الفاعل، انتهاء بنقل حالة الطوارئ في البلاد من درجة "الخطورة" إلى "الخطورة الشديدة"، رغم سيل التهكمات، والاستنكارات التي نالتها، وارتفاع نبرة مطالبتها بتقديم استقالتها، وهو ما انعكس في العديد من الصحف البريطانية وغير البريطانية. هذا ما أشارت له مجلة "فرونت بيج" الأمريكية، عندما وصف الكاتب الأمريكي "روبرت سبنسر"، "ماي"، بأنها "خرجت بعد الحادث الانتحاري الذي رّج بريطانيا أمس، لتُعلن في بيان لها: أن الشرطة تعمل جيدًا للوقوف على تفاصيل وملابسات الحادث، مرسلة خالص تعازيها إلى أسر الضحايا وكل من تضرر من الحادث".

تريزا ماي، اكتفت بعد أن اتخذت الإجراءات الأمنية اللازمة، وأوعزت إلى الجهات ذات الشأن باتخاذ أقصى درجات التأهب والحيطة بالقول إن "حادث أمس يعد أحد أسوأ الأحداث التي شهدناها بالمملكة المتحدة، ورغم أن هذه المرة لا تعد الأولي التي تعاني فيها مانشستر بهذه الطريقة، فإنه الهجوم الأسوأ الذي تشهده المدينة والأسوأ أيضًا في تاريخ شمال إنجلترا، مضيفة أنه بات من المؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن سكان مانشستر ومواطني البلاد أجمع قد وقعوا ضحية حادث إرهابي."

والسؤال الآن لماذا تصرفت ماي بمثل هذه الرزانة، ورباطة الجأش، التي انعكست أيضاً على وسائل الإعلام البريطانية، وامتد تأثير هدوئها على الشارع البريطاني. فلم نقرأ تنديدات حادة من ماي، ولا تحشيدات متطرفة من الوسائل، ولا ردود فعل مُنفلتة من الشارع. ومن الصعوبة بمكان القبول بأن يكون كل ذلك محض صدفة بحتة، إذ لا بد وأن يكون هناك خيط رفيع يجمع بين الجهات الثلاث تلك، وأن يد تيريزا ماي هي من تمسك بهذا الخيط وتتقن أساليب تحريكه، ومهارات التحكم فيه.

ولربما تكمن وراء ذلك مجموعة من الأسباب والدوافع التي نحصر الأهم من بينها في النقاط الثلاث التالية:

· الأول منها أن أولويات لندن، بما فيها كسب رضا الشارع البريطاني لم تعد مكافحة الإرهاب، كما هو الحل بالنسبة لإدارة جديدة مثل ترامب. ومن ثم فإن سلم الأولويات مختلف تمامًا، ويتصدرها في هذه المرحلة عزم بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهي مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لأية حكومة بريطانية، ليس على المستوى الخارجي فحسب، وإنما على الصعيد الداخلي أيضًا. فتبعات الخروج معقدة، وانعكاساتها متشعبة، لا تقف عند الحدود السياسية، بل تتجاوزها كي تمس بعمق الجوانب الاقتصادية، بل ربما تتسع دوائرها كي تصل إلى العمق الاجتماعي. وعليه، تدرك تريزا ماي أنّ عمقها الاستراتيجي، ليس في مكافحة "الإرهاب"، بل في إعادة تأهيل "البلاد، ومعها العباد"، لمرحلة ما بعد الخروج.

· أما الثانية، فهي، كما تبدو، هي عدم اقتناع تريزا ماي، وربما الإدارة البريطانية، بجدوى محاربة "الإرهاب" على طريقة "الكاو بوي" الأمريكي. وللبريطانيين تجربة غنية مع ذلك "الكاو بوي"، ما يزالون يعانون منها في العراق، حيث اكتشفوا وإن جاء ذلك في وقت متأخر، أن الانسياق وراء واشنطن في هذه الحرب، مكلف، وقد لا يُحقق أية أهداف بريطانية باستثناء تلك المتطابقة مع الأهداف الأمريكية والمشروعات المرتبطة بها. وعليه، فمن المنطقي، طالما يصر ذلك "الكاو بوي"، الاستفراد بالغنائم، ويستمتع بحرمان الحلفاء إلا من فتاتها، العودة إلى الاعتماد على الذات، بما في ذلك طرق وأساليب مكافحة الإرهاب، دون أن يعني ذلك الدخول في أية مواجهات غير محسوبة، وغير مطلوبة، إلا في نطاق ضيق، وعندما يتطلب الأمر ذلك. هذا التصرف المحكم في تفاصيله هو الذي شهدناه في التصرف البريطاني إزاء تفجيرات مانشستر.

· أما الثالثة، وهي الأكثر حضورا فجذورها اقتصادية، حيث تحاول تيريزا ماي أن تحتفظ بالزخم الذي عرفه الاقتصاد البريطاني إثر فوز حزب المحافظين في الانتخابات الأخيرة، حيث سجل الاقتصاد البريطاني، كما ينقل عامر العمران من مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية عن تقارير جادة " أسرع نمو اقتصادي بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الكبرى عام 2014، وكان معدل البطالة لديها نصف متوسط الاتحاد الأوروبي. وفي أحدث دراسة صادرة عن المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية (NIESR ) أظهرت أن بريطانيا تتجاوز فرنسا كثاني أكبر اقتصاد في أوروبا (في الوقت الراهن)، على الرغم من توقعات بتباطؤ نمو المملكة المتحدة هذا العام، وفقاً لما ذكرته صحيفة (التليجراف). ويرى المعهد أن الاقتصاد البريطاني سينمو بنسبة 2.5% هذا العام، وعلى الرغم من أن ذلك يقل عن توقعاته البالغة 2.9% منذ 3 أشهر، وأدنى مستوى العام الماضي 2.8%، إلا أنه يعتقد أن فرنسا ستنمو بمقدار 1.3% فقط هذا العام وبنسبة 1.6% في 2016" .

رباطة الجأش البريطاني، كما جاءت في سلوك تريزا ماي تفتح أبوابا جديدة لمن يُريد ولوجها من أجل محاربة "الإرهاب" بنهج مخالفة لأسلوب "الكاو بوي " الأمريكي.