علي بن مسعود المعشني
من تابع قمم الرئيس الأمريكي الثلاث في الرياض مؤخرًا يشعر ظاهريًا بأنَّ هناك شيئاً جديدا يُعد للمنطقة، وأن عهدة ترامب تنذر بحسم صراع إقليمي عمره بعُمر الصراع العربي الإسرائيلي على طريقة الكاوبوي الأمريكية وأنّ هناك انقلابًا حقيقيًا في السياسات الأمريكية تجاه المنطقة.
والحقيقة أن تلك القمم في عُرف الفريق المناوئ للمعسكر الأمريكي والراسخين في السياسة والعلم، هي مجرد فولكلور أمريكي يُمثل أحلاماً كثيرة في كل عهدة رئاسية ومفصل تاريخي بعينه ويتمخض عنها نتائج عابرة لا تذكر لخصها الرئيس ترامب في عباراته الاستعراضية في كلمته حين مارس برنامج ما يُطلبه المستمعون على الحضور ليُطربهم بوصفه لإيران بالدولة الداعمة للإرهاب والمُقلقة في سلوكها لحلفاء أمريكا في المنطقة والكيان الصهيوني. ثم يُغادر ترامب الرياض ليطمئن كيان العدو بأن "العرب" أصبحوا أكثر قربًا من إسرائيل وبُعدًا وكُرهًا لطهران. جولة ترامب وقممه لا تتعدى العلاقات العامة والتسويق بمفهومهما التجاري العميق ولكن بإضفاء صبغة المسؤولية هذه المرة كون المسوق هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
دونالد ترامب يمثل ظاهرة آنية في السياسة الأمريكية الحالية من حيث تضاد المقومات والرغبات الشخصية وإكراهات الواقع، وبالتالي يمكن القول بأنَّه الشخص المُعادي المثالي لقيم الديمقراطية الأمريكية والجاهل بحدود الالتماس بين مراكز القوى في أمريكا، الأمر الذي سيوقعه في صدام عنيف مع المؤسسات العميقة في أمريكا ولوبيات النفوذ وحكومات الظل، والتي بدأت بلا شك في ترتيب أوراق الضغط على ترامب وفتح ملفات لإدانته في الوقت المناسب للإطاحة به. من القراءات العابرة للصراع مابين ترامب والإدارة الأمريكية، هو استنكارها لطريقة عزل مدير المباحث الفيدرالية وفي ذروة انشغاله بالتحقيق عن إدعاءات الدور الروسي في حملة ترامب، إضافة إلى قرار الإدارة الأمريكية بتمديد العمل بقرار تخفيف العقوبات على إيران تزامنًا مع الانتخابات الرئاسية الإيرانية ومع تهديدات ترامب في قممه.
قرار ترامب بعزل كومي سيتفاعل ولن يمر مرور الكرام على المُتربصين به، وقرار الإدارة الأمريكية بتمديد تخفيف العقوبات على إيران يُبرهن بأن الأمريكان يرسلون رسائل توسل وطمأنة للجانب الإيراني بأن أقوال ترامب مُجرَّد فقاعات مائية ومن لزوميات القمم المرتقبة وطقوسها المطلوبة، وإن الإدارة الأمريكية ترحب بوصول رئيس "مرن" لسدة الحكم في طهران من شاكلة روحاني لتواصل معه تطبيق الاتفاق النووي ومُلحقاته، والعودة إلى سياسة أوباما تجاه طهران والحلفاء في المنطقة. المؤسسة العسكرية الأمريكية بدورها تعلم بأنَّ مناورات ترامب وأوباما قبله وتهديداتهم لا تعنيها كونها عاكفة ومنهمكة إلى النخاع لتجديد أسلحتها الإستراتيجية التي أنهكتها مقامرات الساسة في أفغانستان والعراق وترميم نفسيات جنودها وتجديد عقيدتهم القتالية، ولهذا أعلنت صراحة فور إنسحابها من بغداد أنها غير مُستعدة لخوض أي حرب قبل عام 2023م وجسدت تصريحها وعجزها هذا في خذلانها للرئيس أوباما في تهديداته بضرب سوريا عام 2013م. والكيان الصهيوني ظهر غير مكترث بصفقات ترامب العسكرية في المنطقة رغم رعبه الدائم من أي صفقة سلاح عربية، كون صفقات ترامب ستكون في أيدي أمينة.
قمم ترامب مجرد حلقة في سلسلة المخطط الأمريكي وأحلامه لتطويع المنطقة وتسليم إرادتها ومقدراتها للكيان الصهيوني منذ حلف بغداد عام 1955م، ولغاية اليوم، مرورًا بمبدأ نيكسون عام 1969م ومؤتمرات شرم الشيخ التي لاتحصى للقضاء على المقاومة وصولًا إلى الجهر باعتبار كل فصيل يقاوم الكيان الصهيوني إرهابياً. الجديد في قمم ترامب هو جهر أغلب الحضور بمعصية طالما استخدموا التقية السياسية لعدم الإفصاح عنها وهي اعتبار إيران خطرًا مشتركًا للعرب المطبعين والصهاينة والحديث عن الخطر الشيعي على أهل السنة، وتجلي شعورهم الكاذب بأنَّهم هم من يُدير أمريكا ويوجه سياساتها ويحدد مصالحها!!
ولكنَّ الفارق الكبير بين حلقات مؤامرات الأمس وتهديدات اليوم هي أنّه بالأمس كانت النظم العربية هي المتلقى والمنفذ لتلك المؤامرات على قناعة قاعدة أن أمريكا قضاء وقدر لا يُرد، أما اليوم فمحور المقاومة وفصائلها وسندهم الشعبي العربي لم يعد في خارطة أذهانهم أو ميادينهم القتالية شيء اسمه التفوق الصهيوني أو القضاء والقدر الأمريكي، وهذا ما يعيه الخصوم جيدًا، فقد وصلنا إلى مرحلة الندية النارية وتوازن الوجع والرعب، ونتفوق عليهم بقوة الإرادة وصلابتها، وقوة العقيدة القتالية كوننا أصحاب أرض وحق.
من المؤكد أنَّ تيار المُقاومة اليوم ينام في العسل قرير العين لأنَّه في كامل جهوزيته ولا يأبه بفقاعات ترامب، ومن المؤكد أنَّ الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني في غاية الارتياح لقمم ترامب وجولته، ومن المؤكد كذلك أن الإدارة الأمريكية على يقين بأنَّ ثمن حزب الله اليوم هو رأس الكيان الصهيوني وليس مطار أو ثكنة عسكرية أو مصنع، لهذا ستعمل بكل طاقتها مكرهة أن تكون التهدئة هي محور سياستها القادمة في المنطقة مع عدم مُمانعتها من ممارسة أدواتها لكل أسباب زعزعة الاستقرار لمحور المقاومة دون تدخل مُباشر منها، أي السير على نهج أوباما مع التحرر التدريجي من تحالفاتها في المنطقة والانصياع لإكراهات الواقع واستيعاب تغير قواعد المصالح والاشتباك، وعلى ترامب الاختيار بين خيارات المؤسسات العميقة في أمريكا وبين ووترجيت جديدة تطبخ له على نار هادئة لتطيح به.
قبل اللقاء: يقول الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن: "تستطيع أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت". وبالشكر تدوم النعم