"إلا القرآن"

 

عيسى بن علي الرواحي

قال لي صديق عزيز: وحدث ذات مرة أن طلب الدكتور المُحاضر ذو التوجه العلماني من أحد طلابه تلاوة آية قرآنية مُحددة، فلما قرأها الطالب أخطأ في قراءتها، فاستاء المحاضر كثيرًا، وقال له غاضبًا: إلا القرآن الكريم لا يحق لك أن تخطئ في قراءته، عليك أن تعرف قدره ومكانته، إذا لم تتعلم القراءة السليمة التي تليق به، فلا تقرأه.

 

وأضاف صديقي قائلاً: وصليت قبل أيام خلف إمام له مكانة في المُجتمع، وقائم بدور بارز في الوعظ والإرشاد، فإذا به يخطئ خطأ بيناً ولحنًا جلياً وهو يتلو إحدى آيات الذكر الحكيم ما يشير إلى أنّ خطأه ذلك ليس سهوًا، وإنما قد تعود عليه.

 

هذا الموقف ذكرني ما سمعته من أحد المحاضرين قبل أسابيع إذ يروي مشهد حلقة تلاوة كان أحد أفرادها ممن نالوا أعلى الشهادات العلمية، وإذا به يُخطئ في قراءة سورة الفاتحة ويزداد فحش أخطائه في سائر قراءته.

 

والشواهد حول قضية الإساءة في تلاوة القرآن الكريم أكثر من أن تُحصى، ويبدو أنَّ غيْرة المحاضر العلماني على القرآن الكريم التي أشرنا إليها آنفاً أكثر من غيرة كثير من المُسلمين اليوم، فإذا كان ذلك مبدأه (إلا القرآن) بحيث يُمكن أن تخطئ في أي شيء إلا القرآن الكريم، فكثيرٌ منِّا يحمل هذا المبدأ أيضًا (إلا القرآن) ولكن بطريقة مغايرة تماماً بحيث عليك أن تتقن كل علم وتنافس على كل علم دنيوي إلا القرآن، فاقرأه كيف شئت، ولا داعي لتجهد نفسك في تعلم تلاوته، فالله عليم بالنيات، وهو الله الغفور الرحيم!

 

نعم هذا هو حال كثير منِّا يخلطون الأمور ويتعاملون مع قواعد الدين ومبادئه وفق الأمزجة والأهواء، ويُسقطون أسس النيات والرحمات وغيرها من الأمور وفق ما يُريدون، ويسيرونها كيفما يشاءون.

 

بل إنَّ المؤسف في الأمر أنَّ واقع كثير من الناس يعلمون جهلهم بالقراءة الصحيحة للقرآن الكريم، وتتوافر لديهم الوسائل والأدوات لتعلمه وإتقان تلاوته، لكن تأخذهم العزة بالإثم فيظلون على جهلهم، ويرون أن ذلك خيرٌ لهم من كشف أمرهم أمام مُعلميهم ظانين بذلك أنهم يحسنون صنعاً، ويحسبون أنهم مهتدون، وهذا هو الكبر والغرور بعينه، فقد أنفوا خير العلوم وأولاها وأشرفها، فهم يعلمون قول الرسول صلى الله عليه وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ويعلمون أيضًا توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن القرآن أول ما ينبغي أن يُتعلم من علم، ويعلمون الأمر الرباني الذي يقضي بلزوم ترتيل القرآن إذ يقول تعالى في كتابه العزيز: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، ولكنهم حرموا أنفسهم هذا الفضل، واستنكفوا عن هذا الأمر.

 

أذكر أننا عقدنا ذات مرة اجتماعاً تأسيسياً لإقامة دورة في تعليم تلاوة القرآن الكريم بإحدى المدارس القرآنية، وكان اللقاء الأوَّل في تقييم مستوى قراءة المشاركين من قِبل أحد أصحاب الإجازات القرآنية، وهذا التقييم أمرٌ لابد منه من أجل أن يقف المُعلم على مستوى كل مشارك، وكان من بين المشاركين أحد الأئمة التابعين لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ولا ريب أنَّه عندما يشارك أمثال هؤلاء فإنَّ الاهتمام به يكون أكبر، والسعادة بمشاركته أعظم، فلما بدأ بالقراءة على المعلم صوَّب له ما وقع فيه من أخطاء كحال زملائه المشاركين، وبعد نهاية ذلك اللقاء تم إبلاغ جميع المُشاركين بانطلاق الدورة في اليوم التالي، لكن صاحبنا الإمام كان حضوره ذلك اليوم هو الأول والأخير، ولربما قرَّر وقرأ في نفسه قوله تعالى (فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فقد رفض أن يكون مشاركاً في الدورة، ورغم تواصلنا معه وإلحاحنا عليه فقد أصر على اعتذاره من غير أعذار، ولعله فعل خيرًا عندما تحايل بشتى الوسائل والطرق من أجل ترك إمامة المُصلين فيما بعد والانتقال إلى وظيفة أخرى. وإن سلمنا فرضًا بأنَّ قراره هذا كان صائبًا فهل يكون رفض تعلم تلاوة القرآن الكريم صائبًا أيضاً؟! إن لم يصلِ بالناس ألا يُصلي لنفسه، ألا يتقرب إلى الله بتلاوة القرآن الكريم؟.

 

ومثل هذا الموقف تماماً شارك أحدهم في الدورة وواصل في جانبها النظري، وقد كان المعلم سعيدًا بمشاركة هذا الفرد، كونه كثير الأخطاء في التلاوة كما أنَّه يؤم الناس في مسجد قريته إذ لا يوجد إمام رسمي من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في ذلك المسجد، ولكن هذا الإمام المتطوع انقطع عن الدورة نهائياً عندما بدأ جانبها التطبيقي، وقد باءت محاولاتنا بالفشل في التواصل معه، فهو حسب وجهة نظره لا يُريد إحراجاً في أن يُصحح له المعلم أخطاءه في مجموعة عدد مشاركيها لا يتجاوز ستة أفراد. هو لا يُريد أن يُحسن تلاوة القرآن الكريم كي لا يقع في حرج أمام زملائه المتعلمين مثله! هو لا يريد الخيرية في التعليم التي بشر بها النبي الكريم لأصحاب القرآن الكريم. ولكن لا مانع لديه ولا حرج أن يؤم المصلين بألحانه الجلية والخفية ظانًا أنَّ جمال صوته يشفع له قبح قراءته، فبئس ما يصنعون!.

 

وإمام رسمي آخر أحسن صنعاً عندما أكمل المُشاركة في الدورة بجانبيها النظري والتطبيقي، ولكن عندما لم يوفق في اجتيازها إلى الدورة الأعلى وطلبنا منه أن يواصل مشوار التعلم خاصة وأنَّه يؤم الناس رفض ذلك، واكتفى بما وصل إليه.

 

أين هو وأمثاله ومن على شاكلته من ذلك الأخ العزيز الذي خبرته أعواماً طويلة كان لا يُحسن قراءة القرآن الكريم، فالضعف القرائي لديه شديد، لكن الله أنعم عليه بحسن الهداية، فسخر كل اهتمامه في تعلم القرآن الكريم حتى عُين إماماً من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في أحد الجوامع، وواصل اهتمامه في تعلم تلاوة القرآن الكريم وإتقان أحكام التجويد، وجاهد كثيرًا في هذا الأمر فلا يكاد يسمع عن برنامج قرآني تعليمي إلا شارك فيه، فأصبح اليوم متقناً لأحكام تجويد القرآن الكريم تطرب الأذن لسماع تلاوته، وأحسب أنَّ قول الله تعالى قد صدق فيه (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت ـ 69)

 

  إنَّ الضعف الشديد في تلاوة القرآن الكريم ظاهرة آخذة في الاستفحال ومن يعش واقع طلاب المدارس أو طلاب الكليات والجامعات يرَ عجباً عجاباً، وأكاد أجزم أن ضعف طلاب اليوم في تلاوة القرآن الكريم أشد وأشنع من آبائهم وأجدادهم الذين نالوا نصيبا أقل في التعليم، ولقد تحدثت مرارا وتكرارا في هذه القضية المهمة المتعلقة بعلاقتنا بالقرآن الكريم في أكثر من اثني عشر مقالاً في جوانب مختلفة، وقد وثقت ذلك في كتابي (حديث المدارس) و(وقفات إيمانية) فمن شاء فليرجع إليهما، وقد طرقت هذا الموضوع مجددا؛ لعظمه وجلالة قدره ورفعة شأنه، وبما أننا على أعتاب شهر القرآن شهر رمضان الفضيل الذي يُعد تعلم القرآن الكريم وتعليمه وتلاوته فيه أعظم القربات إلى الله تعالى وأجلها، ورجائي كل الرجاء أن يسعى كل صائم لديه ضعف في التلاوة إلى الحرص على تعلم قراءة القرآن الكريم؛ ليتلوه حق تلاوته مستغلاً كل الوسائل المتوفرة والفرص المتاحة لتحقيق هذه الغاية السامية والهدف النبيل، سائلاً الله تعالى أن يُوفقنا إلى صيام هذا الشهر الفضيل حق الصيام، وقيامه حق القيام، وأن يرحم من صاموا رمضان المُنصرم فأمسوا اليوم بين أطباق الثرى إنِّه سميع مُجيب الدعاء.

 

issa808@moe.om