رسائل ترامب من الرياض المبطَّنة الواضحة!!

عبيدلي العبيدلي

تناولتْ وسائل الإعلام العربية والعالمية على حدٍّ سواء -إلا في حالات استثنائية نادرة- الشق السعودي من الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل أيام إلى المملكة العربية السعودية. وركزت على ضخامة صفقات السلاح التي بلغت قيمتها ما يربو على مئات المليارات من الدولارات، وما رافقها من صفقات تجارية أخرى. وعرضت القنوات الفضائية العديد من البرامج الحوارية التي تفاوتت بين من رأى في تلك الزيارة ونتائجها فوائد مجزية للسعودية على وجه الخصوص، والعالمين العربي والإسلامي على وجه العموم، وبين ذلك الذي وجد فيها إعادة الرياض إلى منطقة النفوذ الأمريكي، وبشروط قاسية ليست في مصلحة المملكة، في مرحلة تتجه فيها العلاقات الدولية نحو الشرق حيث الصين وروسيا، وربما الهند، ذات الشروط غير المجحفة.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن الكثيرين ممن برروا موقف الجانب السعودي، ذهبوا إلى القول بأن إحدى نتائج هذه الصفقات العسكرية الضخمة المهمة، هي ما وصفوه بـ "توطين الصناعة العسكرية الحربية، كي تتمكن المملكة من تصنيع ما لا يقل عن 50% من حاجتها للسلاح في السنوات القليلة المقبلة، إلى جانب توفيرها ما لا يقل عن 70 ألف فرصة عمل جديدة بشكل مباشر، و50 ألف أخرى بشكل غير مباشر".

خلتْ المواد الإعلامية -بما فيها الأمريكية- من الرسائل التي أراد ترامب أن يبثها من الرياض؛ سواء للعالم الخارجي من عرب ومسلمين، أو للشعب الأمريكي، بعد موجة الجدل التي أحدثتها تصريحاته منذ وصوله إلى البيت الأبيض، والتي تراوحت بين الإثارة والتعجب، سواء في شقها السياسي العام، أو الشخصي الخاص.

نظرة متمعنة فاحصة لتلك الزيارة غير المفاجئة، تكشف مجموعة من الرسائل التي أراد ترامب أن يوصلها بشكل مبطن -لكن واضح، لمن أراد قراءتها بهدوء ودون أي انفعال- إلى من أراد مخاطبتهم محليا وعالميا، يمكن إجمالها في النقاط التالية:

إلى الشعب الأمريكي بشكل عام، يريد ترامب أن يقول لهم إنه بخلاف الكثيرين من رؤساء الولايات المتحدة، بمن فيهم من انحدروا من عائلات رأسمالية أصيلة، لديه مشروع ضخم، بوسعه أن ينتشل الاقتصاد الأمريكي من أوحال الأزمات التي تكاد أن تزهق روحه. فهو، أي ترامب، لا يبحث عن صفقة اقتصادية "صغيرة، بمعيار الحلول"، هنا، أو أخرى محدودة الأفق هناك تتيح له التحدث عن مجموعة من الصفقات قيمتها الحقيقية أقل بكثير مما تحتاجه خطط إعادة الاقتصاد الأمريكي إلى سكته التي يحتاجها، منذ أن عصفت به أحداث البرجين في مطلع القرن الواحد والعشرين.  وها ما تفسره، بل وتؤكده، الصفقات المالية الضخمة التي بلغت قيمتها مئات المليارات من الدولارات يفترض أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ خلال فترة قصيرة نسبيا.

إلى الفئة المسلمة من الشعب الأمريكي، يود ترامب أن يشيع الاطمئنان في قلبوهم بعد أن هزتها من الأعماق تصريحاته النارية بشأن "الإسلام والمسلمين"، خاصة الإسلام "القادم من السعودية"، وإجراءاته التي حرمت مواطني سبع دول إسلامية من حق الحصول على تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة، بمن فيهم طلاب يتلقون العلم هناك، ومرضى لا يستغنون عن الخدمات الصحية المتوفرة في مستشفيات أمريكا. رسالته تقول، أنا لم أذهب إلى الرياض، وأحظى باستقبال مميز فحسب، بل جاء إلي، وفي الرياض، زعماء العالم الإسلامي كي نتباحث بشأن مستقبل العلاقات الأمريكية-الإسلامية، بما يصون مصلحة الأطراف كافة.

إلى المنافس الدولي في الشرق الأوسط، وهو روسيا، يلوح ترامب، مهددا، بأوراق مقومات الصمود التي سيحملها بين يديه، بعد تلك الزيارة، والتي ستمده بالقوة التي يحتاجها لوضع شروط أية مفاوضات قريبة محتملة بشأن إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، التي يريد ترامب أن يكون نصيب الولايات المتحدة فيها الأكبر بين مختلف القوى العالمية، روسية كانت تلك القوى أم صينية. فهو هنا يؤكد أننا سنحارب، ليس بأموالنا الذاتية، ولا أسلحتنا الخاصة، وإنما بأسلحة متطورة جرى تسديد فواتيرها من قبل "حليف" محلي، له مصلحة مباشرة في أن تميل موازين القوى لصالح المحور الذي تقوده واشنطن.

وفي سياق مخاطبته المنافس الروسي، يوجه ترامب خطابه على نحو مباشر إلى التحالف الروسي-الإيراني، فهو هنا يرفع في وجه ذلك التحالف البطاقة الحمراء التي تحمل لغة التهديد، بعد أن كانت ورقة أوباما تسيطر عليها لهجة الترغيب. رسالة ترامب هنا واضحة، تقول إنَّ واشنطن على أبواب دخول مرحلة ستزج فيها بقوى إسلامية، ليست شرق أوسطية فحسب، ولا عربية فقط، في معاركها القادمة في الشرق الأوسط، التي لن تقتصر على الصدامات العسكرية، بل ستتجاوزها إلى الضغوطات السياسية، و"تهشيم العظام الدبلوماسي"، مصحوبة، بتفتيت القوى المحلية المناوئة، التي ترفض معتمدة على ما يتمتع به المعسكر الروسي-الإيراني من حضور متفوق في منطقة الشرق الأوسط، في هذه المرحلة.

بقيت الرسالة الأخيرة، وهي الأكثر غموضا وتخفيا، وهي تلك الرسالة الموجهة إلى تل أبيب، فحتى اليوم لم يصدر، كما تعودنا أن نسمع، أي شجب لتلك الصفقات العسكرية الضخمة، والمتقدمة نوعيا، كما دأبنا أن نسمع من تل أبيب. هذا الصمت الصهيوني، يثير الكثير من التساؤلات، قبل الشك والريبة. فهل هناك تطمينات من واشنطن ترامب، أن الكيان الصهيوني سيحصل على أسلحة مضادة أخرى، تؤمن، كالعادة، ترسانة عسكرية صهيونية تتفوق على كل ما يمكن أن يكون بحوزة الرياض؟ أم أن هناك ضمانات أخرى تفرضها طبيعة العقود تحظر على هذه الأخيرة استخدام هذه الأسلحة التي يفترض أن تكون متطورة، في أية حرب قادمة محتملة بين العرب والكيان الصهيوني؟

الرسائل مبطنة لكنها واضحة لمن أراد أن يقرأ المشهد بشكل جدلي، بعيدا عن العواطف، ومتحاشيا الانفعال غير المبرر.