أحمد الرحبي
إنَّ المُسيطر على وعينا وفهمنا لموضوع الموت هو خوفنا ورعبنا السحيق منه، فلو نحينا جانباً هذا الخوف والرعب من الموت، وتعاملنا مع موضوعه بحيادية وتجرد سواء في دراستنا وبحثنا لظاهرة الموت أو في التأمل الوجودي المجرد في الموت، في إطار الحياة التي نعيشها والمعاني السامية والأهداف والغايات التي تزدحم بها حياتنا المهددة بالموت، لساعدنا ذلك في الاقتراب من فهم متوازن وتحقيق وعي مسالم للموت، فالخوف من الموت رافق الإنسان منذ فجر الحضارة وما زال هاجسه الذي لا يُفارقه طيلة حياته الواعية، ويذهب العالم الانثروبولوجي إيرنست بيكر إلى أننا لكي نستطيع النهوض في الصباح نلوذ بنُظم معتقدات رمزية مبنية بناءً دقيقاً يسميها الأنثروبولوجيون "ثقافة".. فهناك على الدوام كما يقول رجفة رعب تحت سطح وعينا وأن عقلنا الأمامي الكبير يمنحنا القدرة على التفكير المجرد والرمزي ونكون أذكياء بما يكفي لأن ندرك أن حياتنا محدودة الأمد مثل سائر الكائنات الحية الأخرى، وأن هذا كله يثير شعورًا بالرعب الوجودي يمكن أن يُصيب صاحبه بالشلل.
ومهما يكن من خطوب ومصاعب تواجه البشر في حياتهم فإنَّ الحياة تبقى هي النبع الدافق دائمًا بالأمل، ومن يقرأ أفراح الروح لسيد قطب وهو عبارة عن كتيب صغير هو بالأساس رسالة وخواطر أهداها سيد قطب إلى أخته، يجد فيه دعوة للنظر إلى الحياة بشيء من التفاؤل وبساطة الفهم لهذه الحياة التي نعيشها من أجل فكرة وهدف يحضانا على الإنجاز والعطاء فيها، بالسهل والبسيط من المعاني تلك التي تخاطب الفطرة الإنسانية، يدعونا سيد قطب في أفراحه، إلى مائدة الحياة ويحضنا على المشاركة فيها تلك المشاركة المتضافرة مع جهود الآخرين التي تصب مجتمعة في إغناء قيمة الحياة فيقول: إنَّ الحياة تنبثق من هنا وهناك دائمًا .. كل شيء فيها إلى نماء .. نماء في العدد والنوع، نماء في الكم والكيف.. فمن قوة الله الحي تنبثق الحياة وتنداح.
ويضيف هذا الانبثاق والانثيال للحياة يحدث عندما نعيش لفكرة، فإن هذه الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه الأرض .. إننا في هذه الحالة نربح أضعاف عمرنا الفردي، فتصور الحياة على هذا النحو يضاعف شعورنا بأيامنا وساعاتنا ولحظاتنا،عكس ذلك عندما نعيش الحياة لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود ويضيف سيد قطب، فالحياة ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة، فمن يتجرد من الشعور بحياته تجرده الحياة ذاتها من معناها الحقيقي، ومتى أحس الإنسان شعورا مضاعفا بحياته فقد عاش حياة مضاعفة فعلا، فإننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية.
كما يضيف عندما تنمو في نفوسنا بذور الحب والعطف والخير نعفي أنفسنا من أعباء ومشقات كثيرة، إننا لن نكون وقتها في حاجة إلى أن نتملق الآخرين لأننا سنكون يومئذ صادقين مخلصين إذ نزجي إليهم الثناء إننا سنكشف في نفوسهم عن كنوز من الخير وسنجد لهم مزايا طيبة نثني عليها حين نثني ونحن صادقون.
وفي المقدمة لهذه الرسالة التي بدأ ديباجتها بأختي الحبيبة هذه الخواطر مهداة إليك يتطرق مباشرة إلى الموت ويقول: إن فكرة الموت ما تزال تخيل لك، فتتصورينه في كل مكان، ووراء كل شيء وتحسبينه قوة طاغية تظل الحياة والأحياء، وترين الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة، مضيفاً بعد ذلك أنني أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة بجانب قوى الحياة الزاخرة الظافرة الغامرة، ويضيف سيد قطب بأن الموت في حقيقته مايكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات، بينما كل شيء إلى نماء وتدفق وازدهار وحياة ...كل شيء ينمو على هذه الأرض ويزداد.
إلا أنه بين الحين والحين يضيف سيد قطب، يندفع الموت فينهش نهشة ويمضي، أو يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة لقيتات، لكن الحياة ماضية، في طريقها حية متدفقة فوارة، لاتكاد تحس بالموت أو تراه، إنه يمكننا القول إن ماسطره سيد قطب في هذه الرسالة وماضمنه في خواطره إلى أخته، هو ذاته معنى الإيمان بالحياة المتجددة المعطاءة، ذلك الإيمان الذي لا ينفصل عن الإيمان بالله الكلي القدرة خالق هذه الحياة، الجدير بالذكر بأن هذه الرسالة كانت مجلة الفكر التونسية قد نشرتها في عددها السادس من السنة الرابعة في مارس 1959 بعنوان أضواء من بعيد.